ترتبط فكرة الملاحم الأدبية بإنتاج هوميروس لملحمتي الإلياذة والأوديسة بما فيهما من استغراق عميق في الأساطير وتوظيف الماورائي والغيبي بصورة مكثفة في السرد، ولعل كل قصة يونانية تستدعي أحد الآلهة الذين تعج بها حياة اليونانيين فيما يبدو وكأنها حاجة مستمرة لبروز القوة العليا في تفاصيلهم، فهم يتعاملون مع الذات الإلهية بصورة تحمل التقديس، وفي الوقت نفسه، يبدون وكأنهم يخلقون أو يصنعون أو يبتكرون آلهتهم لحاجتهم لإله. ولا شك، تبدو فكرة وجود مجمع أرباب مسألة عصية على الاستيعاب، ولكنها حال أولئك القوم الذين اكتمل مجمعهم ذاك بعبادة ديونيزيوس في القرن السابع قبل الميلاد. ومن ذات المنطلقات التي أوجدت كمية من الأرباب برزت الأساطير التي مثّلت "خط الفعل المتصل" في الملاحم، وجعلت المأساة اليونانية موضوعا عبقريا في السرد والحكي الواقعي والرمزي. في الحياة اليونانية تبدو المأساة حاضرة لأن كل ما يحتك بما هو غيبي ويفوق القدرة الطبيعية للإنسان لا بد وأن ينتهي بشكل تراجيدي. وربما كان كولن ويلسون دقيقا في تتبعه لليونانيين الذين لم يكونوا بعيدين عن الأدرية في رؤيتهم إلى أن العالم لم يخلقه الله وإنما خلقه شيطان غبي مغرور، أو قوة خلاقة غير عاقلة أسماها إفلاطون ديميورج (Demiurge)، أما الله فهو فوق الخليقة، وفوق الخلق، ويُشار إليه باعتباره العلوي البعيد، الظلمة العميقة، اللاموجود، وقد عني هذا التعبير الأخير أن الله يكمن وراء كل شيء نعنيه نحن بالوجود، وأنه يقيم في عالم ال (بليروما) أو الكمال الغيبي المطلق. ذلك يعني كيف تم إنتاج المأساة، من خلال الدخول في متاهات مظلمة وعميقة. وهذا ما يبدو في قصة شيلا جنية البحر مع أوديسيوس كما جاء في الأوديسة. ويفسر تأثيرها الدوس هيكسلي، صاحب كتاب (عام جديد شجاع)، بقوله إن تأثيرها متوقف على ما فيها من تركيز أولا، وعلى تخليصها ثانيا من كل الأحداث الفرعية أو كل العناصر غير التراجيدية أو المضادة للعناصر التراجيدية، وهذا بالضبط ما حدث في استعراض سيرة أوديسيوس، حيث ركّز هوميروس على تفاصيل بعينها في استدعاء بطله الذي غالبا ما كان يصفه بأنه "شبيه بالإله"، وأيضا بأنه "زيوس" متساوٍ في عقله، ومتحدث رائع حقا، وكلماته المقنعة تتدفق مثل رقاقات الثلج في الشتاء. ومع ذلك، لم يكن البطل مفكرًا فحسب، بل كان أيضا محاربا، وقد تمت الإشارة إلى شجاعته وبراعته القتالية في لقب هوميروس له بأنه "قاتل المدن"، عطفا على دخول طروادة. في الأوديسة كانت المأساة معقدة ومتشابكة بصورة إبداعية في غاية البراعة، فأوديسيوس تعرض للعديد من الأزمات رغم المقاربة التي وضعها له هوميروس بأنه شبيه بالإله، إلا أن ذلك لم يحل دون تعرضه لما يمكن أن يكون مأساة منحت الأوديسة كثيرا من الحيوية والطاقة الإخبارية (Informing Power) الضرورية للفن الملحمي، وهذه النقطة بالذات هي التي جعلت المسرح ملهما في تقديم النصوص وتحويلها إلى تمثيل مقنع وجدير بأن يحمل رسالة أو رؤية درامية ترتكز أكثر إلى المأساة بوصفها تحمل تركيزا يمنح المتلقي الجرعة التي تخاطب وجدانه وعقله، وتؤثر فيه بفعالية أكبر. الناس أكثر التماسا إلى الحقيقة، وأن يعيشوا الصراع بحيث ينتهي إلى استواء يستقيم مع واقعهم أو حقيقتهم الإنسانية، لذلك ينحازون إلى المأساة تعبيرا عنهم أو عن تجارب عاشوها، فالحياة دوما قاسية ومأساة في كثير من جوانبها، وذلك ما يجعل كل عمل فني يتناول مأساة أقرب إلى وجدان الناس حتى ولو كان ميثولوجيا، وذلك ما يؤكده أرسطو برؤيته أن المأساة تقليد لعمل جدّي كامل بنفسه له شيء من الخطر والأهمية. وهي تلك الأهمية الكامنة التي يعبث بها أمثال هوميروس ويجعلونها تحفة فنية خالدة.