أول أمري مع السفر، كان في رحلة حج من المدينة إلى مكة، وكنت صغيرا غير مكلف بصحبة والدي، وكانت وسيلة السفر شاحنة كبيرة، قسمت قبل ركوبها إلى دورين بواسطة ألواح من الخشب المتين، أرضي للنساء وأول للرجال، وقد علقت على جانبي هذه الشاحنة قرب الماء والأباريق وخشب لسند الخيام عند نصبها في المشاعر، وبجانب الرجال طبقت الخيام وأواني الطبخ، وقليل من شيش التوباكو، التي تستخدم عند مراحل توقف الشاحنة حتى وصولها إلى مكة، ويطول الحديث عن رجرجة الشاحنة، وتساند ركابها على بعضهم كلما مرت بمطب أو منعطف. والوسيلة الثانية كانت سيارة أجرة أميركية معمرة نقلتنا إلى الرياض، كنا خمسة أو ستة أشخاص، بعضهم مسافر للدراسة، وبعضهم للبحث عن وظيفة، وعامل واحد كان عنده أمل في حظ أوفر في العاصمة، كانت الرحلة شاقة، ولم نصل إلى "الحلة"، درة الأحياء الشعبية في ذلك الوقت، إلا بشق الأنفس، لنبقى مع مجموعة من المهاجرين للداخل، حتى تحل أمورنا. والرحلة الثالثة، كانت في بدايتي الوظيفية بواسطة سيارة "أبلكاش" عابرة للرمال والمرتفعات، وكانت من الرياض للقويعية، انطلاقا من سوق الملح في الشميسي القديم، كانت هذه الرحلة تستغرق خمس ساعات، نصل بعدها إلى هدفنا غير غانمين أو سالمين، مكللين بالغبار والعطش والجوع! وبعد ذلك تطورت وسائل سفري عندما ركبت الطائرة لأول مرة وكانت من نوع "داكوتا"، وهي طائرة خشنة ترى وأنت فيها كل ما هو تحتك بوضوح، وفي هذه الطائرة التي غدت فلكلورية، قياسا على الطائرات الحديثة؛ عليك ربط نفسك جيدا، وأن تكون مستعدا للمطبات الجوية أو الزوابع حتى تصل إلى هدفك، كانت تلك أول رحلة لي بالطائرة، وكانت إلى عروس الشمال حائل.. حينذاك كانت أرض المطار ترابية خالصة. وبعد هذه الرحلة بعام أو عامين، ركبت الطائرة من الرياض إلى جدة، ومن جدة إلى القاهرة. رحلة اشترك فيها ثلاثة شبان، تعارفوا في مطار جدة، وسكنوا معا في شقة واحدة، ليدب "النقار" بينهم من اليوم الثاني لوصولهم إلى مدينة كانت للتو تتفتح على الأجواء السياحية الخليجية الخجولة والصاخبة معا. في تلك الرحلة ونحن نتناول الطعام، كانت التعليمات صارمة: اربطوا الأحزمة! كانت الطائرة ترفرف مثل الحمامة.. انقبضت النفوس، وحل مكان البهجة قلق عاصف، لم ينتبني في "الداكوتا" السالفة الذكر. تلك الرحلة، جعلت أيامي في القاهرة كلها تفكير فيما هو قادم، وكأن المطبات والزوابع في الأجواء دائمة، وتتعرض لها كافة وسائل النقل الجوي! بعد هذه الرحلة، طلبت مني مجلة "أهلا وسهلا"، التابعة للخطوط السعودية مشاركة لنشرها في المجلة، فكتبت عن تلك التجربة. وعندما قرأ المسؤول مشاركتي رفض نشرها؛ فالراكب في الطائرة، على حد قوله، بحاجة لعزله عن كل ما يعكر صفاءه، وهو بين الأرض والسماء، تلك الرحلة جعلت ربط الحزام طوال الرحلة أساسيا في الطائرة والسيارة، وهو لون من ألوان الوسوسة الحميدة!