قد يستغرب البعض العنوان، وأعلم أنهم يتساءلون: ألم تقطع التجربة السعودية أشواطا بعيدة، وحققت إنجازات اعترف بها العالم أجمع؟ لن أختلف مع هؤلاء، فأنا أيضا أرى ما يرون، لكني أضيف عليه أني - من واقع خبرتي ومجال تخصصي - أن المملكة تمرُ ب "لحظة سبوتنيك" فارقة! "Sputnik moment": تعبير أميركي ظهر في ستينات القرن الماضي، عندما شعر الأميركيون أن الاتحاد السوفييتي تخطاهم في سباق الفضاء، عندما نجح في إطلاق أول قمر صناعي يدور حول الأرض العام (1957م)، وحمل اسم "سبوتنيك1"، حينها شعر الأميركيون بالهزيمة العلمية، فأعادوا حساباتهم، وضاعفوا جهودهم طوال عقد الستينات، حتى نجحوا في وضع أول رجل على سطح القمر العام 1969؛ ليحسموا في تلك اللحظة سباق الفضاء لصالحهم.. من وقتها أصبح تعبير "لحظة سبوتنيك" يصف اللحظة التي يدرك فيها الناس أو الدول أنهم على حافة الفشل، ما لم يضاعفوا جهودهم ليلحقوا بنظرائهم. وأعتقد أن المملكة تمر الآن بلحظة سبوتنيك فيما يخص مجال البحث العلمي والابتكار! أظهرت الحكومة مؤخرا اهتمامًا كبيرًا بتطوير البحث العلمي، وتمثل ذلك في رؤية (2030)، التي تحوي خطة متكاملة للتحول من الاقتصاد القائم على النفط، إلى الاقتصاد القائم على العلم والمعرفة، ومن أجل ذلك؛ وُضِعت الخطط والاستثمارات لدعم الابتكار، وبناء القدرات الوطنية في المجالات العلمية. وأفخر أن السعودية حققت خلال السنوات الماضية نقلةً نوعية في مجال التعليم والبحث العلمي، بداية من الاستثمار في واحدة من أكبر منح التعليم في الخارج - حيث بلغ عدد المبتعثين في الخارج نحو (93) ألف مبتعث في العام 2019 وحده - ومرورًا بتشجيع التعاون الدولي بين الباحثين السعوديين ونُظرائهم في أكبر جامعات العالم، وإنشاء جامعات ومراكز أبحاث عالية المستوى؛ مثل: مدينة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST)، ومركز الملك عبدالله العالمي للأبحاث الطبية، ومركز أبحاث مستشفى الملك فيصل التخصصي، مع خلق حلقة وصل بين مراكز الأبحاث في المملكة، تمثلت في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية؛ لتنظيم العمل البحثي بين تلك المراكز، وتطويره، ووضع الخطط والاستراتيجيات الوطنية للبحث والابتكار. إضافةً لذلك، تضاعف عدد البحوث العلمية المنشورة في المجلات العالمية، والأرقام لا تكذب: في العام 2008 كان لدينا (2,210) أبحاث علمية فقط، بينما وصل الرقم العام 2017 إلى (16,603) أبحاث، أما بالنسبة لعدد الأوراق العلمية المنشورة، فوفقًا لمقاييس جودة النشر العلمي H-index، احتلت المملكة المركز (36) عالميا لعام 2019، وفي مجال الاختراعات، فحدث ولا حرج: السعودية هي الأولى عربيا، بعد أن بلغ عدد الاختراعات لديها (569) اختراعا، وبالنسبة لعدد السعوديين العاملين في البحث العلمي في المملكة، فلم تكن نسبتهم تتجاوز 10 %، لكنها ارتفعت العام 2011 لتصل إلى 35 %، كما أظهرت الجداول السنوية لمؤشر Nature لعام 2020 أن السعودية تحتل المركز الأول عربيا، و(29) عالميا، بالنسبة لمستوى جودة الأبحاث العلمية المنشورة. بعد هذه الجولة السريعة في الأرقام والإحصائيات، التي تؤكد أن ملف المملكة في البحث العلمي والابتكار ينمو بسرعة هائلة، لماذا إذا أقول إن السعودية تمر بلحظة سبوتنيك؟ لأن كل هذه الإنجازات الرائعة ما تزال منخفضة كثيرا، مقارنة بما يجب أن نكون عليه كدولة من دول مجموعة العشرين.. لقد بذلنا جهودا كبيرة، وقفزنا قفزات هائلة؛ لكننا مع ذلك ما زلنا متأخرين، ويمكنني أن أجمل سبب ذلك في أمرين رئيسين: 1 – تحدي الاستثمار: عندما كنت أدرس الدكتوراه في جامعة أوكسفورد العريقة؛ وجدت أن الجامعة قامت بإنشاء قسم كامل لاحتضان أفكار طلاب وخريجي الجامعة وتبنيها، وخلال السنوات التسع الماضية فقط، عملوا على جذب استثمارات بقيمة (70) مليون جنيه إسترليني؛ لتبني (80) مشروعًا ناشئًا. هذه هي كلمة السر: الاستثمارات! إن وادي السيليكون "Silicon Valley" في الولاياتالمتحدة الأميركية، والذي يمثل التجربة الأعظم في مجال التطوير والاختراعات الجديدة هناك، اعتمد - بشكل كامل - على ثقافة "الاستثمار في البحث العلمي؛ ليصبح منتجا صناعيا". إنها رؤية بعيدة المدى، ترى أن إنفاق الأموال على البحث العلمي سيعود على المستثمر بأضعاف ما أنفقه، عندما تتحول هذه الأبحاث إلى ابتكارات تكنولوجية تغزو الأسواق، وفي هذا الصدد تدخلت الحكومة بصناديقها الاستثمارية، وشركات البحث والتطوير، بالإضافة لشركات رأس المال المخاطر، والمستثمرين الملائكيين، وأيضا المؤسسات الخيرية، كل أولئك استثمروا في وادي السيليكون، حتى أصبح الوادي يسهم بثلث العائدات الاستثمارية في أميركا، وهو ما جعلها تستمر في تصدرها كأقوى اقتصاد في العالم. لقد بدأت شركات وادي السيليكون بفكرة صغيرة من مراكز الأبحاث والجامعات؛ ولكن وجدت من يستثمر فيها ممن يطلق عليهم اسم "المستثمرين الملائكيين Angel Investors"، وهم رجال وسيدات أعمال أغنياء، يقومون بتمويل مشروعات ناشئة من أموالهم الشخصية، في مقابل حصة في هذه الشركة. وفي الولاياتالمتحدة يوجد (320) ألف "مستثمر ملائكي" استثمروا نحو (26) مليار دولار في الشركات الناشئة، أما في مجال شركات التكنولوجيا الحيوية، فقد استثمر "الملائكيون" العام 2018 وحده مبلغ (758) مليون دولار، وقد تندهش - عزيزي القارئ - إذا عرفت أن من ضمن الشركات العالمية التي بدأت بدعم من "مستثمرين ملائكيين" شركة غوغل، بتمويل (100) ألف دولار من "أندي بيكتولشيم"، وفيسبوك بتمويل (500) ألف دولار من "بيتر ثيل". والسؤال: هل يوجد لدينا في المملكة "مستثمرون ملائكيون"؟ أجل، لكن عددهم لا يتعدى المئات! والشركات الكبرى في وادي السيليكون - بدورها - تعتبر الأكثر إنفاقًا على البحث العلمي على مستوى العالم، وإليك على سبيل المثال: شركة أمازون، استثمرت (22.6) مليار دولار في مجال البحث العلمي والتطوير، وهو ما يشكل (12.7 %) من إيراداتها، أما غوغل، فأسهمت ب(16.2) مليار دولار، وأبل ب (10.8) مليارات دولار.. ليس هذا فقط؛ بل قامت تلك الشركات كذلك بتحفيز قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال دعم البحث والتطوير، حتى أصبحت هذه الشركات الناشئة ناجحة، وقامت أيضا بتخصيص جزء من مواردها لدعم الشركات الأصغر منها، وهكذا دواليك. فإذا سألت الآن: ما الوضع عندنا في المملكة؟ فتجد الإجابة: إن البحث العلمي مدعوم فقط من شركتين اثنتين فقط، هما أرامكو وسابك! هذا هو التحدي الأهم والأساسي الذي يعوق البحوث العلمية والتطور التكنولوجي في السعودية: عدم وجود استثمارات كافية في هذا المجال، مع نقص الإنفاق الحكومي، مقارنة بما تنفقه دول العالم المتقدم؛ فأميركا مثلا تنفق على البحث العلمي (476) مليار دولار سنويا، وهو ما يعادل 2.7 % من ناتجها القومي، أما السعودية، فلا تنفق سوى (12.5) مليار دولار، بما يعادل 0.8 % من ناتجها القومي؛ وهذا حسب الأرقام الصادرة من منظمة اليونسكو للعلوم والثقافة، وما تنفقه السعودية على البحث العلمي - على قلته - يعتمد بنسبة 85 % منه على التمويل الحكومي، و15 % على القطاع الخاص، بينما في أميركا 90 % من الإنفاق على البحث العلمي يأتي من القطاع الخاص. نحن بحاجة ماسَّة لتشجيع الاستثمارات من خلال إشراك القطاع الخاص ورؤوس الأموال في البحث العلمي والابتكارات، بما يضمن انتقالها من مراكز الأبحاث إلى مواقع الإنتاج، وهذا ما يهدف إليه برنامج صندوق الاستثمارات العامة، أحد برامج الرؤية، الذي يعمل على تشجيع الاستثمار في القطاعات الواعدة بالمملكة، التي توفر إمكانية تنويع الاقتصاد وتنميته، وتنويع مصادر الدخل، وتوطين المعرفة الحديثة والتقنيات المبتكرة، وتمكين القطاع الخاص من تنمية هذه القطاعات وتطويرها، ويبقى فقط تطبيقها أيضا على مستوى البحث العلمي والابتكار. ولا ننسى الثقافة الأهم التي تنقصنا، هي ثقافة التبرع للبحث والابتكار، ففي العالم المتقدم تقوم المؤسسات الخيرية بتمويل الأبحاث في مجال التكنولوجيا والابتكار، فمؤسسة ويلكوم تراست "Wellcome Trust" الطبية مثلا مولت في هذا المجال بمنحة قدرها (26) مليار دولار، بينما أسهمت مؤسسة بيل وميليندا جيتس Bill & Melinda Gates الخيرية ب (50) مليار دولار، أما في السعودية، فلدينا عشرات المؤسسات الخيرية التي تنفق على جميع المجالات، باستثناء البحث والابتكار..! 2 – تحدي الابتكار: هل تنحصر مشكلة البحث والابتكار لدينا في قلة الاستثمار فقط؟ بالتأكيد لا، فهناك مشكلة أكبر، وهي أن عدد ومستوى الابتكارات لدينا - أساسًا - مُتدنٍّ، وهذا ليس ادعاء؛ إنه تقرير مؤشر الابتكار العالمي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO، الذي يعتمد على مقاييس مفصلة عن الأداء الابتكاري باستخدام (80) مؤشرا، وفي العام 2020 كان تقييم المملكة فيه في المرتبة (66)! ولننظر إلى دولة كانت في مثل موضعنا يوما ما، والآن صارت من كبرى الدول الصناعية؛ كالصين، نجد أنها بدأت في مجال الابتكارات العام 1988، بأن توسعت في إقامة الحدائق والحاضنات والمراكز التكنولوجية؛ لتبني أي فكرة جديدة، واحتضان أي مشروع قابل لأن يتحول إلى منتج صناعي، وذلك عن طريق ربط البحث العلمي بالقطاع الخاص، وعمل الصينيون على إنشاء (54) حديقة تكنولوجية خلال التسعينات، وأقاموا (465) حاضنة تكنولوجية حتى العام 2002، والآن تحتل الصين المركز الثاني عالميا - بعد أميركا - في عدد الحاضنات التكنولوجية، ووصل عدد الشركات التي أقيمت في هذه الحدائق التكنولوجية إلى (20,796) شركة، تقدم للسوق منتجات تكنولوجية مبتكرة، ويعمل في هذه الشركات نحو (2.5) مليون شخص، وبلغت عوائدها نحو (150) مليار دولار أميركي. لقد شجعت السعودية برؤية (2030) على إنماء المشروعات الصغيرة والمتوسطة من خلال برنامج "منشآت"، الذي يعمل على دعم وتنفيذ مشروعات وبرامج لنشر ثقافة المبادرة والابتكار؛ لكن ما زال أمامنا الكثير. ما زال أمامنا الكثير حتى نلحق بركب دول العالم المتقدمة، وأثق أن ذلك في مقدورنا واستطاعتنا؛ فقط علينا أن ندعم الاستثمار في مجال البحث والابتكار، بأن نشجع القطاع الخاص على الاستثمار في هذا المجال بشكل أكبر، ونزيد من عدد ومستوى ابتكاراتنا، بأن نشجع الأفكار الجديدة ونحتضنها، وعندها فقط سنتجاوز لحظة سبوتنيك! وللحديث بقية. *باحثة بمركز الملك عبدالله العالمي للأبحاث الطبية