قيل سابقاً إذا دخل القانون من الباب خرجت العاطفة من الشباك، ومن هذا تعد المحاكم أرضاً خصبةً لجدية الوقت والكلمة، إذ يجب على المتخاصمين عدم الحياد عن جادة الترافع وإجراءاتها الصارمة، فلذا يعد الصلح حلا آخر لتجنب أروقة المحاكم ولتفادي طول أمد التقاضي، وهذا الذي أدى إلى تفعيل منظومة المصالحة وتمكينها بما يحقق أهدافها وآثارها الإيجابية وذلك بموافقة وزير العدل على قواعد العمل في مكاتب المصالحة. ويعرف الصلح بأنه وسيلة لتسوية المنازعات وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين بالتراضي صلحاً كلياً أو جزئياً، فقد حث الشارع الحكيم على فضل الصلح قال تعالى «والصلح خير»، وللصلح ثمرات منها ما يعود على القضاء ومنها ما يعود على المتخاصمين، فثمرته للقضاء هي الحد من تدفق القضايا إلى المحاكم وتكدسها، والذي ينعكس إيجاباً على إنتاجية أصحاب الفضيلة بالتركيز على قضاياهم وتجويد أحكامهم. أما بالنسبة لثمرة الصلح للمتخاصمين فهما أكثر المستفيدين، وذلك لسرعة البت في النزاع والفصل فيه بوقت أسرع، مع السماح باختيار المصلح والوقت والمكان المناسب وما إلى ذلك والذي يصعب أن يجداه في المحاكم، وأيضاً من ثمرته البعد عن حضور الجلسات القضائية والتي تتسم بالجدية والدقة في حضور المواعيد واتباع إجراءات الترافع. ويعد محضر الصلح أخف وطأة من صك حكم المحكمة، حيث إن حكم القاضي لا كاسب من النزاع إلا أحدهما فقط، أما في الصلح فقد يتنازل كل منهما بقدر بسيط من حقه ويصلحا وهنا يعد كل منها كاسبا مع بقاء التآخي والمودة والتلاحم بينهما وعدم القطعية. حيث قامت وزارة العدل مؤخراً ممثلةً بمركز المصالحة بإتاحة لمن لديه الرغبة أن يكون مصلحاً، وذلك بتوافر سبعة شروط أهمها حسن السيرة والسلوك والشهادة الجامعية واجتياز الاختبار والمقابلة الشخصية، حيث خضعت أول دفعة لاختبار قياس كفايات المصلح المسجل وهي أحد المقاييس التي تنفذها هيئة تقويم التعليم والتدريب بالشراكة مع وزارة العدل لرفع جودة انتقاء العاملين بهذه المهنة السامية. واهتم اختبار كفايات المصلح المسجل على قياس مدى توافر الكفايات المطلوبة من المرشحين للعمل بمهنة الإصلاح وفض النزاعات، ويتكون من الكفايات الشرعية والكفايات النظامية، والكفايات الأساسية، والمهارات الشخصية والقيم. ووزارة العدل تسابق الزمن في تهيئة بنية صلبة للمصالحة والمصلحين، وذلك بتوفير أكبر قدر ممكن من المصلحين الذين اجتازوا الاختبارات والمعايير التي وضعتها الوزارة وأصبحوا أشخاصاً مؤهلين للفصل بين الناس، والذي سيكون خيارا مثاليا للمتخاصمين عند تطبيق نظام التكاليف القضائية، حيث أنشأت وزارة العدل منصة رقمية (تراضي) وهي تهدف إلى إنهاء النزاع في زمن قياسي برضا جميع الأطراف دون حضورهم، وأهم مميزاتها السرية التامة والحياد والمهنية من المصلح، ولا يجوز الإفصاح عما دار في الجلسات من معلومات ووثائق وما نتج عنها من محاضر صلح، أو تقديمه كإثبات أو الشهادة به أمام الجهات القضائية إلا في حدود ضيقة جداً. فالصلح يتم عبر عدة خطوات يسيرة بدايةً من طلب الصلح من الأطراف بشكل مباشر دون اللجوء إلى المحكمة، ثم اختيار المصلح وتحديد طريقة عقد اللقاءات حتى يتم إصدار محضر الصلح. ولا يعتبر محضر الصلح سنداً تنفيذياً إلا بعد أن يوقع المصلح والأطراف عليه ومدير مكتب المصالحة أو الأمين العام أو من يفوضه على أن يخضع محضر الصلح إلى مراقبة ومراجعة قبل اعتماده من وحدة إدارية في المركز وذلك بهدف ضمان جودة المحضر. وبعد أن يستوفي محضر الصلح الشروط اللازمة يصبح سندا تنفيذيا تطبق عليه أحكام السندات التنفيذية الواردة في نظام التنفيذ، كما في المادة (9/3) من نظام التنفيذ والتي نصت على أن من ضمن السندات التنفيذية محاضر الصلح التي تصدرها الجهات المخولة بذلك أو تصدق عليها المحاكم، حيث لا يحق لأحد أطراف المصالحة فسخ محضر الصلح بعد لزومه أو إبطاله إلا بموافقة جميع الأطراف أو لمقتضى شرعي أو نظامي. لذا تعد المصالحة من الممارسات القضائية لتسوية النزاع، والتي تسعى من خلاله إلى إحلال التآخي ونبذ التخاصم والحث على التراحم بين المتخاصمين، وهي البديل الأفضل اجتماعياً واقتصادياً لتسوية النزاعات، والتي تتسم بحفظ جهد وأوقات القضاة والمتخاصمين من الهدر على نزاعات يمكن أن تحل بالصلح، والذي أبثت الواقع نجاح منظومة المصالحة في تحقيق أهدافها.