لن أذهب في مساقات معقدة حول مفهوم التربية الإعلامية، وسأقص من أبعادها ما يمثل شيئاً من واقعنا التواصلي الممتد والواسع. لذا سأطلق على ما أطرحه في هذا النوع "التربية التواصلية"، وذلك من منطلقات التعاطي والتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي. اليوم، هل وسائل الإعلام تربي أم تدفع بنا إلى التقليد والمحاكاة؟ وهل مدى هذا الدفع قوي أم محدود؟ وكيف يتم إن وجد؟.. من الجهة الأخرى لابد من الغوص في أعماق الوسائل التواصلية، والسؤال عن مدى تأثيرها وقوتها واتجاهها.. فهل نستطيع الإجابة؟.. قد يصعب ذلك لأن كل الجوانب والأطراف متداخلة بطريقة غريبة لا حدود ومعالم لها. كيف يمكن أن نحقق مفهوم التربية التواصلية في مساحة مشتتة من الأطروحات والمفاهيم يجعل الوعي لدينا متأرجحاً بين استهلاك واستلاب؟.. وكيف لنا أن نحدد معالم تلك التربية على أرضية صلدة لا نستطيع التفتيش داخلها؟ سأطلق مزيداً من الأسئلة: من يربي من؟ هل انصهرت عقولنا من هيمنة تأثير الوسائل؟ هل سنعمل على تربية المرسِل تواصلياً، أم تربية المتلقي، أم دهن الوسيلة بالقيم المشبعة؟ هل سنترك مدخلات التواصل ونركز على مخرجاته؟ هل لدينا أدوات جديدة نستطيع من خلالها استيعاب العملية التواصلية ومضامينها؟ لنتأمل ما التربية؟ يرى أندرسون 1981 "التربية الإعلامية هي جمع المعلومات وتفسيرها واختبارها وتطبيقها بمهارة من أجل القيام بعمل هادف بغض النظر عن الوسيلة أو طريقة العرض". أما بارتون وهاملتون 1998 فإنهما يريان التربية الإعلامية بأنها" نشاط يوجد في المساحة الواقعة بين التفكير والنص. فالتربية لا توجد في أذهان الأشخاص فحسب، على اعتبار أنها مجموعة من المهارات الواجب تعلمها، ولا توجد على الورق، حيث يتم تلقيها كنصوص يتم تحليلها. إنما التربية شأنها شأن كل نشاط بشري، هي في الأساس اجتماعية، وتوجد في التفاعل بين الأشخاص". أما هويز 2001، فينظر إلى التربية الإعلامية على أنها" القدرة على النفاذ إلى الرسائل وتحليلها وتقييمها وإيصالها بأشكال مختلفة". وهذا حاضرنا يوضح أن الجيل هو جيل تواصلي أكثر مما هو إعلامي تقليدي، والتربية هنا تتعدى كونها دافعاً للمتلقي البسيط لفك رموز ومعلومات التدفق التواصلي، الذي يصب بين يديه بطريقة متسارعة وكثيفة.. ويتعدى ذلك إلى تحفيزهم لتنشيط التفكير النقدي فيكونوا قادرين على الفهم والإنتاج المقبول وسط سريان معلوماتي ضخم يصدمهم كل ثانية. وحين يملك المتلقي القدرة على فرز المضامين الملقاة على قارعة بصره من خلال تشكل الوعي، وتكوين معنى ذاتي لتصنيف المشبوه من المقبول، والمزيف من الحقيقي، ومعرفة القيم غير الملائمة وإدراك متى يرفض أو يتجاوز، ومتى يتوقف ويأخذ. هنا أرى أن الواقع التواصلي مملوء بالأعباء حين يفرض نمطاً جديداً وهو "التربية التواصلية" التي من خلالها يتمكن المتلقي بتفكيره ونقده وفرزه لما يتلقاه من المحتوى المتنوع من تفكيك المقاصد والمعاني والآثار، ومن ثمَّ تطوير أحكام مستقلة عنه فيكون مشاركاً مستفيداً، ومتلقياً مستقلاً، لا مستهلكاً كفيفاً أو تابعاً خانعاً.