لأننا نعشق المقارنات، وقبل الحديث عن الموضوع، إليكم الآتي: السيد رونالد كوكس، عالم الاقتصاد الشهير، الذي اهتم بدراسة طبيعة الشركات والأسواق ومحاولة التعرف على أغراضها وأسباب نشوئها، توفي بعد أن تجاوز المئة بأعوام ثلاثة، وانتهى قبل وفاته بعام واحد من المشاركة في تأليف كتاب بعنوان (كيف أصبحت الصين دولة رأسمالية). عالم الإدارة الشهير بيتر دراكر، الذي توفي عند السادسة والتسعين عاما، ظل أستاذا للإدارة في جامعة كليرمونت للدراسات العليا حتى وفاته، أما السيد وليام جيه باومول أحد الاقتصاديين المهتمين بريادة الأعمال والمولود في العام 1922 فهو مازال يعمل أستاذا لريادة الأعمال وقد نشر آخر كتبه وهو في التسعين عاما، أي في العام 2012. الأمر نفسه ينطبق على صاحب مدرسة شيكاغو الشهير السيد ميلتون فريدمان الذي توفي وقد بلغ السادسة والتسعين عاما من العمر. في المقابل، أساتذة جامعاتنا، وبقوة النظام، يتقاعدون عند بلوغ الستين عاما، والواقع أنهم عند الثامنة والخمسين عاما حسب السنوات الميلادية، أي أنهم في أنصاف أعمار من قاموا بتدريسهم حينما كانوا يتلقون تعليمهم في الجامعات الغربية، ويبقى المحظوظ منهم حينما يتفضل عليه زملاؤه في القسم، الذين قام هو بتدريس أغلبهم، بالتعاقد معه عاما أو عامين ليواصل إعطاء محاضراته دون سواها من الأعمال الأكاديمية الأخرى التي تتطلبها طبيعة عمل الأستاذ الجامعي. يتم ذلك في الوقت الذي تتسابق فيه جامعاتنا للتعاقد من خارج المملكة مع من قد يكون أقل خبرة وتأهيلا من الأستاذ السعودي، مع شدة المنافسة وصعوبة الحصول على أعضاء هيئة تدريس، وبالذات في التخصصات التي يزداد عليها القبول عاما بعد آخر. إنني أرى أن ما يتم ليس إلا هدرا لا مبرر له، إذ كيف تنفق الدولة ملايين الريالات على تدريس وابتعاث هذه النخب إلى أرقى الجامعات، ثم تستغني عنهم جامعاتهم في وقت هي في أمس الحاجة لخدماتهم وخبراتهم. إن مهنة التدريس والبحث في الجامعات وغيرها من المهن المشابهة، هي من المهن التي يزداد صاحبها خبرة ومعرفة مع تقدم السنوات وتراكم الخبرات، ولنا فيما تقوم به بعض مؤسساتنا الحكومية من استقطاب بعض أساتذة الجامعات العالمية، الذين تقدم بهم العمر، للمشاركة في بعض أنشطتها وفعالياتها الدليل على ذلك. أكتب ذلك بمناسبة نظام الجامعات الجديد، واستقلال بعض الجامعات وإعطائها الكثير من الصلاحيات المالية والإدارية، لعل هذه الجامعات تضع أنظمة مرنة تمكنها من الحفاظ على أهم ثروة لديها، ولعل غيرها من الجامعات الأخرى تحذو حذوها. ولكي لا "يشخصن" الموضوع فإن كاتبه قد غادر الجامعة بتقاعد مبكر منذ قرابة الخمسة عشر عاما!.