نشر المفكّر الأميركي ستيفن بلانك، دراسة أخيرة حول إعلان الرئيس التركي أردوغان عن اكتشاف تركيا للغاز الطبيعي في المتوسّط مفنّداً حقيقة الاكتشاف وادّعاء الرئيس التركي بأن تركيا ستصبح من مصدّري الغاز في العالم. ويعتبر ستيفن بلانك، من أهم المفكرين الأميركيين المختصين بمنطقة آسيا الوسطى، حيث نشر أكثر من مئة دراسة حول المنطقة وعمل كمستشار لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، وشهد على كبرى أحداث المنطقة أمام الكونغرس الأميركي، كما يشغل اليوم منصب كبير الخبراء في مركز "جلوبال بوليسي" CGP البحثي في واشنطن الذي نشر البحث الأخير حول الغاز الطبيعي المعلن عن اكتشافه في تركيا، لتعيد نشر الدراسة بعدة لغات عدد من المنابر البحثية والاعلامية الأميركية والغربية مثل مجلة "فورين بوليسي" و "دويتشيه فيليه" و "World oil" وشدّد بلانك في دراسته على الحديث عن جهود أردوغان الحثيثة لاكتشاف الطاقة وهاجسه لتحويل تركيا إلى قوة عظمى مؤثرة في جميع أنحاء شرق البحر المتوسط والمشرق العربي معتبراً أن هذه الحقيقة تدفع أردوغان لتصوير إعلانه عن اكتشاف الغاز الطبيعي على أنه حدث تاريخي. وأفاد بلانك في دراسته بأن كمية الغاز التي تحدّث عنها أردوغان والتي تشكل 320 مليار متر مكعّب، حتى وإن نجحت تركيا بالتوصل لآلية مناسبة لاستخراجه، لن تحوّل تركيا بأي حال من الأحوال إلى بلد مكتفي أو مصدّر للغاز الطبيعي بحلول العام 2023 كما ادّعى أردوغان، فعلى الرغم من الضجيج التركي حول هذا الاكتشاف أوضحت الدراسة بأن الغاز المكتشف لا يقدر حتى على تلبية احتياجات تركيا نفسها من الغاز الطبيعي حيث يتوقّع بأننا سنرى تركيا في العام 2023 مستمرة بشراء نفس كميات الغاز التي تشتريها اليوم من روسيا. ويرى بلانك، أن قراءة إعلان أردوغان في السياق العام لما تمر به تركيا من أزمات جيوسياسية واقتصادية يفسّر المغالطات حول هذا الإعلان، فأردوغان بحسب بلانك صعّد في الفترة الأخيرة من وتيرة الوعود من وعد لشعبه باكتشاف الغاز واستغلاله وتسويقه ليصبح دخلاً اضافياً تستفيد منه تركيا، إلا أن هذا الإعلان ليس إلا فصلاً جديداً من وعود أردوغان الداخلية بعوائد اقتصادية كبرى لتبرر سياساته العدوانية. ويؤكد بلانك بأن الاكتشاف الأخير لا يغيّر قواعد اللعبة في موازين صادرات الطاقة الدولية بأي شكل من الأشكال، فالمكتشفات التركية من الغاز الطبيعي بحسب أردوغان تبلغ 320 مليار متر مكعّب، أي أقل من نصف الاحتياطي التي تملكه ولاية أوهايو الأميركية والذي يبلغ 690 مليار متر مكعّب، مع العلم أن أوهايو هي ثامن أغنى ولاية بالغاز الطبيعي في أميركا ولا تعتبر صاحبة ثروة هائلة من الغاز، بعبارات أخرى، فإن هذه الكمية من الغاز لا تمكّن تركيا من منافسة الدول المنتجة والمصدرة للغاز، وهذا يعني أن كلفة استخراجه وإنتاجه ستكون عبئا كبيرا ومكلفا على الدولة التركية لا يكاد يسد حاجات الاستخراج وهذا يعني أيضاً أنه لن يكون هناك عائد مالي من هذا الغاز يمكّن تركيا من البحث عن المزيد. ويشير بلانك إلى عقبة فنية خطيرة أخرى تجعل وعود أردوغان بإدخال الغاز الطبيعي إلى الأسواق العالمية بحلول 2023 ضرب من الخيال، فاستخراج الغاز الطبيعي من البحر يتطلّب مستوى عالمي من الآليات والتقنية المتّبعة عبر طرح مشروع متقدّم وغير مسبوق وبالنظر الى خبرة تركيا المتواضعة جداً في إنتاج الغاز من أعماق البحار، وقلة الموارد المكتشفة وعدم إمكانية تقييم ضمانة بوجود المزيد من الآبار وفهم بيئة الحقول المكتشفة يزيد من استبعاد تحقيق هدف اكتفاء تركيا من الغاز الطبيعي أو تحقيق طموح اردوغان بتصدير الطاقة. ويرى بلانك، أن عددا من المحللين لاكتشافات الغاز التركي يؤكدون أنه لا يوجد اليوم أي جدوى اقتصادية مؤكدة من الغاز المكتشف في تركيا بالنظر إلى كلفة التقنيات القادرة على استخراجه وهو أمر تعرفه مؤسسات الحكومة التركية إذا ما فكّرت باتخاذ قرارات اقتصادية عقلانية، إلا إذا عقدت تركيا اتفاقيات مع دول أجنبية لها خبرة وتملك الآليات اللازمة لاستخراج الغاز من البحر والبحث عن المزيد منه، الأمر الذي يستبعد الكاتب إقدام أردوغان عليه، خاصة أن أي شركة أجنبية ستحتاج عقد من الزمن على الأقل للقيام بعملية استخراج غاز البحر الأسود وبالتالي لن يبقى لتركيا أي عائد تقريباً بالنظر الى الكميات القليلة المكتشفة حتى اليوم، بالإضافة إلى موقف تركيا العدواني في السياسات الخارجية والذي يجعل عقد أي تفاهمات اقتصادية متساهلة مع الجانب التركي أمر مستحيل، بالإضافة إلى عائق آخر سيظهر لاحقاً إذا امتلكت تركيا فعلاً الموارد لاستخراج هذا الغاز، وهو الحاجة إلى مناقصة دولية لبناء خط أنابيب لجلب الغاز الطبيعي من عرض البحار إلى الشواطئ التركية وهو أمر معقّد آخر من المستحيل أن يحدث في ظل تدهور الاقتصاد التركي والموقف الجيوسياسي التركي المتردّي مع الأوروبيين والولايات المتحدة ومحيطها الإقليمي. وأوضحت الدراسة بأن سياسات تركيا العدوانية في البحار هي آخر ما يحتاجه بلد يرغب بتصدير الطاقة، ولأن تركيا لم توقع على اتفاقية لجنة الأممالمتحدة لقانون البحار، فلا يوجد لديها منطقة اقتصادية خالصة معترف بها، مثلما لا تعترف هي بمطالبات قبرص أو اليونان، وبالتالي تحرّكات السياسة التركية كلها مبنية على مراهنات ومزايدات تحاول تطبيقها بالقوة المفرطة، فهذا الاعلان محاولة أخرى لفرض الأمر الواقع الذي يخفي ورائه مخاوف من أن تصبح قبرص منتجًا رئيسيًا للغاز وتترك قبرص التركية وراءها، وهو أمر تستشعره تركيا ويزيد من غضب أردوغان استبعاد بلاده من منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل، الذي يجلب له في الداخل ضغوطات متزايدة يحاول اسكاتها أو تأجيل الانفجار الداخلي الذي قد تتسبب به بالإعلان عن اكتشاف الغاز ووعده بتحويل تركيا إلى قوة عظمى إقليمية. ويعتقد بلانك، أن جميع رهانات أردوغان على حل مشكلاته بالمزيد من التصعيد ستكون خاسرة، فتهديده بالقيام بأعمال عدوانية ضد اليونان وهي حليف وشريك في الناتو، وفتحه اتصالات مع حماس واستضافتهم علناً في مقراته الرئاسية، وتوقيعه المعاهدات مع ما وصفته الدراسة الأميركية ب"الحكومة الليبية البائسة" وهي الكيان الوحيد الذي تعترف بمزاعم تركيا بالسيطرة في شرق المتوسط ليس إلا رهانات خاسرة تجرّه للمزيد من التورّط في المشكلات. واعتبرت الدراسة أن الخلاف العميق بين تركيا ومصر، ليس الا مثال على مراهنات أردوغان الخاسرة، حيث خسر أردوغان بلدا هاما كمصر وحوّله كعدو له لأنه دعم حكومة إسلامية وحركات مشبوهة حكمت مصر في السابق لم يكن وجودها واستمرارها أمر مضمون، وليزيد الطين بلة، بدأ بفتح جبهات خطيرة في ليبيا، عمّقت أزماته مع اليونان وفرنسا ومصر وتقود إلى اندلاع غضب شديد في الناتو ضد أردوغان. مضيفاً؛ لطالما أصرّ القادة الأتراك على أن تركيا يجب أن تكون مركزاً مهماً للطاقة في الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى، إلا أن القادة المتعاقبين لم يتعاملوا مع الأمر بعدوانية كأردوغان، الذي يؤجج تصعيده من الغضب الإقليمي ضد تركيا، والذي يعتقد الكاتب بأنه لن يبقى محصوراً في أوروبا، بل قد يضع تركيا في صراع جديد من مستوى آخر في بعض جيران البحر الأسود، التي نراها اليوم على شكل توتّرات بدأت تلوح في الأفق مع روسيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا الأمر الذي سيفتح على أنقرة جبهة جديدة. ويختتم الباحث ستيفن بلانك دراسته بالتأكيد على أن الفائدة الوحيدة لأردوغان من هذا الاكتشاف هي تسكين مؤقت لأوجاع الشعب التركي الاقتصادية بوعدهم بمكاسب مستقبلية، أما الحديث عن "معجزة" اقتصادية تركية وراء اكتشافات الغاز فهو ضرب من الوهم، ولن تصبح قضية الطاقة واستخراجها والاستفادة منها في تركيا أمر ممكن إلا بعد حل الخلافات التركية وإنهاء السياسات العدوانية التي يقول عنها الكاتب "أن غصنا بها فسنرى أن المشكلات وعقبات استخراج الغاز المكتشف تركياً من البحر هي أهون المشاكل بالمقارنة مع ما ينتظر تركيا في ملفات أخرى."