النخلة، وما أدراك ما النخلة؟! النخلة كانت ولا تزال أنموذجًا مشرقًا للمظهر المتألق ونهراً جارياً للعطاء المتدفق، كانت لآبائنا وأجدادنا مصدرًا للرزق وسلة للغذاء وأمانًا وسدًّا منيعًا ضد المخمصة والجوع، يكفيها شرفًا وفخرًا وتكريمًا واحتفاءً أن بجَّلها رب العزة والجلال في محكم كتابه المجيد بإيماءات تحمل كل معاني التعظيم والتفخيم: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ)، (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ)، (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، بل ويضرب بها رب العزة والجلال المثل بقوله عزَّ من قائل: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، كيف لا وهي بقوامها السامق وجريدها الباسق وعسبانها الوارفة وعذوقها الدانية وطلعها النضيد الشجرة المعطاءة السخية التي كانت تمد آباءنا وأجدادنا بكل ضروريات الحياة، وكانوا يتمتعون ويستمتعون بغذائها الهنيء المريء الطيب السخي بألوانه المتباينة وأشكاله المتعددة الذي يدوم طوال العام منذ بدايته كرطب جنيٍّ إلى تمر شهيٍّ يؤكل في كل وقت وحين، لا يحتاج إلى وسائل حفظ أو أجهزة تبريد، وكفى ثمر التمر تكريمًا وتبجيلاً أن اعتبر افتتاح الإفطار في رمضان ومن أطعمة الزكاة. كما أن التمر لم يخل من أحاديث نبوية شريفة لما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (بَيْتٌ لاَ تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ)، كما أخبر النبي الأكرم عن الفوائد الطبية للتمر، وخاصة عجوة المدينة واحتواءها على مضادات للسموم والأكسدة، فقال: (مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ) [أخرجه البخاري]. ومن عطاءات النخلة المتعددة أن صنع الآباء والأجداد كل ما يحتاجونه من مستلزمات في حياتهم، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: المَنْسَف والحصيرة والمِهفَّة والسُّفرة والمُبرَّد والزنابيل والسِّلال والقفاف (جمع قُفَّة) والأبواب والأقفال (المُجْرا) ومفاتيحه، ومن خشبها الأبواب والأوتاد ووقود الطهي والتدفئة، كذلك الأغصان والسَّعَف في سقوف المباني، ومن ليفها الحبال والأرشية، ولا ننسى النوى أيضاً ودوره الكبير كغذاء للحيوان والدواب، كما ذُكِرَ أيضًا أنه يدخل في صناعات مستجدة ومنها صناعة الأدوية والعقاقير الطبية. كما ذُكرتِ النخلة في الشعر العربي حيث قال فيها أبو العلاء المعري: وردنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ ** وزرنا أكرمَ الشجرِ النخيلا حقًا إنها لشجرة ثرية غنية تتسامى بطلعتها الفارهة وقامتها الشامخة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. بَقيتِ أيتها الشجرة المباركة شعارًا يُزين علم بلادنا الأخضر الخفَّاق، وظللتِ رونقًا زاهيًا ورمزًا عريقًا يضفي على شوارعنا وحدائقنا ومنازلنا سمات الهويّة والأصالة ونضارة الحسن والبهاء.