الكورونا تناور، هجمة هنا وهجمة هناك، ألف حالة جديدة يومياً في فرنسا بسبب ترك الناس للحذر مع إغراءات الشمس والإجازات التي تتوافق مع نشاط الكورونا. الأقنعة تعود لتتصدر اهتمام الجماهير، تصبح إجبارية داخل كل الأمكنة المغلقة من المرافق والمؤسسات والمحلات التجارية والمرافق الترفيهية، عادت الوجوه تتقنع بالخوف غالباً. أقنعة تتحرك بصمت في الأضواء الخافتة لنهارات المطاعم والمقاهي ومحلات التسوق، أقنعة تعبر ببطء في الحافلات التي لاتزال لم تتكدس بعد، أقنعة تمرق بسرعة البرق على الزلاجات «السكوتر» أو الدراجات، لقد نجحت عمدة بلدية باريس «آن هيدالجو Anne Hidalgo» خلال السنوات الخمس الماضية من رئاستها للبلدية أن تحول طرق باريس لتتكرس للدراجات دافعة السيارات الخاصة لمرتبة متأخرة في أولوية الحق في الطرق، مما يقود سائقي السيارات للجنون، «هيدالجو» المشغولة بتخفيض نسبة التلوث في مدينة حيوية في العالم مثل باريس، تصرح «هيدالجو» في برنامج انتصارها بخمس سنوات إضافية من عمودية مدينة النور بأن خطتها لهذه السنوات الخمس ستتركز على «تخضير» باريس، ليس فقط توسيع مساحات الخضرة في المدينة وإنما استحضار الغابة لقلب المدينة، أو ما يسمى «الغابة الحضرية urban forest»، «هيدالجو» لا تكتفي بالحدائق المهندسة والمعتدلة الخضرة وإنما تسعى للكثافة، لشيء ربما يشبه عملية النفس الصناعي التي تُجرى لكائن فاقد الوعى وعاجز عن التنفس، لكأنما تشحذ هيدالجو أنفاسها مع أنفاس الباريسيين والسياح العاشقين للمدينة وتشحذ في نفس الوقت أنفاس الشجر وبرك المياه والحيوانات والحشرات المستدعاة بتلك الخضرة لتضخ كل ذلك في رئة باريس، فهل ستنجح؟ ما الذي ستأتي به الخمس سنوات القادمة لهذه المدينة التي تعودت أن تستضيف ما يقارب السبعين مليون زائرا بالإضافة لسكناها الفعليين الذين يقارب عددهم 2,148 مليون نسمة. حشود مهولة تستوعبها المدينة بمواقعها الترفيهية وبعطاياها المنعشة من روائع المطبخ الفرنسي ومطابخ العالم المستقطبة لها وبأنشطتها الثقافية، أنشطة تفوق الحصر، إذ هناك ما لا يقل عن سبع مئة مناسبة ثقافية يتم تدشينها يومياً في المدينة هذا بالإضافة للمتاحف وعروضها الدائمة، وبالإضافة لحدائقها المتعددة التي تتراوح في أحجامها وتنويعات مزروعاتها ومساحاتها المائية، احتمالات للمدينة تستحضرها الزوبعة التي عصفت ببلدية باريس حين اضطر المستشار الثقافي لرئيسة البلدية للاستقالة من منصبه بصفته الذراع اليمنى لهيدالجو، وذلك بسبب تظاهر امرأتين من العاملات في البلدية ضده بحجة أنه لم يشارك في إدانة الكاتب «جابرييل ماسنيف Gabriel Matzneff 1936» في قضية العلاقة التي أقامها مع قاصر، والتي قامت مؤخراً بتأليف كتاب عن تجربتها التي وصفتها ب»المدمرة» وانتهت برفع قضية ضد الكاتب الذي أسعفه الحظ بدعم كبير من الوسط الأدبي الفرنسي رغم عدم تحقيقه لرواج كبير بين القراء، وبالرغم من ذلك فلقد حصد جوائز أدبية مهمة آخرها عام 2015 «Prix Cazes «. وإن استقالة مستشار هيدالجو تحت ضغوط التجريح من قبل تينك المرأتين لتدعو للدهشة في مجتمع يتميز بحرية الرأي، حيث لم يكن لهذا الرجل من ذنب غير احتفاظه برأيه في قضية الكاتب ولم يتورط بأي شكل من الأشكال في أي تجاوز يُذْكَر. هذا ونشهد مؤخراً مع حركة «وازن خنزيرك Balance Ton Porc» التي نشأت في أكتوبر 2017 بفرنسا، وحركة «أنا أيضاً Me to» بالولايات المتحدة الأميريكية، وهي حركات مناضلة بعنف ضد استغلال النساء من قبل الذكور، وهي حركات قادت لخروج النساء مطالبات بكشف الحقائق وراء الستار بشأن ما يُمارس ضد المرأة، وقادت تلك المطالبات لفضح الكثير من القصص الخفية والتي ربما يتصف بعضها بالتجني، كما أقيمت العديد من الدعاوى بأنحاء العالم ضد رموز دولية وأدت لاستقالات في مناصب مختلفة. سكوت عبر التاريخ بالغ التطرف تقابله هذه الحركة من الكشف والتجريح والتي لا تقل تطرفا. موجات تجتاح العالم وتتواكب مع الموجة الكبرى.. الكورونا، بينما نحن البشر نزداد ربما تطرفًا أو إيماناً.