نعتقد أن كثيراً من التقاليد السابقة قد تواجه تحدياً حقيقياً لأن البيئة الاجتماعية تغيرت ليس فقط بسبب كورونا بل بدأت بوادرها قبل ذلك منذ مطلع الألفية الثالثة عندما بدأت العزلة الرقمية، وهي عزلة تتنامى باستمرار ولن تتناقص في المستقبل المنظور.. حديث المجالس الرقمية هذه الأيام ينصب حول "العيد الافتراضي" الذي يبدو أنه يمثل حلاً مقبولاً في هذه الظروف "الكورونية" التي ألزمت الناس كي يتباعدوا، كما أن ثقافتنا تبدو أكثر من غيرها من الثقافات في حثها على التقارب الاجتماعي واللقاءات الأسرية مما زاد من المعاناة الاجتماعية بشكل كبير وأوجد تحدياً صارخاً للنظام الاجتماعي شجع البعض لابتكار أفكار جديدة قد تتحول مع الوقت إلى تقاليد اجتماعية تحظى بقبول كبير. يظهر أن البدائل، وإن كانت غير مقبولة بالكامل في الوقت الراهن، إلا أنها بدائل، يقول خبراء علم الاجتماع أنها سوف تغير من التقاليد الاجتماعية في المستقبل، وبالتالي فنحن أمام أسئلة حادة حول مجتمع ما بعد كورنا فهل سيتقبل الناس التقاليد الجديدة ويستمرون عليها أم أنهم سيعودون إلى تقاليدهم القديمة. أحد الأفكار المهمة التي تم طرحها مؤخراً كانت "مجالس الأسر الافتراضية" حيث يتم تحديد يوم محدد في وقت محدد يرتبط أفراد الأسرة فيها بأحد برامج التواصل المرئي ويتبادلون التهاني. أنها فكرة تبدو ذكية وتقدم حلاً مقبولاً يتناسب مع الظروف لكنه حل يعبر عن تحول كبير يشهده هذا العيد قد يجيب على تساؤل المتنبي القديم عندما قال: عيد بأي حال عدت يا عيد * بما مضى أم بأمر فيه تجديد العلاقة المشدودة مع التقاليد بدأت مبكراً قبل العالم الافتراضي وقبل كوفيد-19 بعقود ففي العام 1983م نشرت جامعة كامبردج كتاباً مهماً عنوانه "ابتكار التقاليد" The Invention of Traditions وهو عبارة عن مجموعة من الدراسات التي قام بكتابتها مجموعة من الباحثين ركزت على قدرة المجتمعات على خلق تقاليد جديدة وأن فكرة "التقاليد الموروثة" ليست حقيقة كاملة بل يشوبها الكثير من الوهم، ومن النادر أن نجد تقاليد تستمر لقرون دون تكييف وتغيير قد تبعدها نهائياً عن أصلها ومنبعها. هذا ما يجعل المهتمين في الوقت الراهن يرون أننا أمام "انحرافاً" قد يكون حاداً يواجه استمرار بعض التقاليد الاجتماعية التي تعودنا عليها. التقاليد الافتراضية الجديدة التي بدأت تنشأ حول النظام الاجتماعي والتعليمي والمهني تنذر بتغيير كبير في الثقافة المجتمعية علينا الاستعداد له. أحد المخاطر الكبيرة للتقاليد التي قد تنشأ نتيجة لكوفيد-19 هي المزيد من العزلة الاجتماعية ويبدو أن هذه المخاوف لها ما يبررها، فقد عرف عن الإنسان ميله للطرق السهلة وطالما أن اجتماع الأسرة الافتراضي سوف يغنيه عن مشقة السفر فلما لا؟ ولما لا يتبنى هذا التقليد الذي يحل كثيراً من مشكلات تنظيم الوقت والتنقل ويقلل من كلفة الاجتماع الأسري، لكنه في نفس الوقت يفقد أفراد الأسرة التجربة الاجتماعية الحقيقية ويجعلهم بعيدين عن الانسجام الحقيقي. نحن نرى أن مثل هذه التقاليد الجديدة سوف تؤدي إلى التفكك الاجتماعي على المدى الطويل. كما أننا نعتقد أن كثيراً من التقاليد السابقة قد تواجه تحدياً حقيقياً لأن البيئة الاجتماعية تغيرت ليس فقط بسبب كورونا بل بدأت بوادرها قبل ذلك منذ مطلع الألفية الثالثة عندما بدأت العزلة الرقمية، وهي عزلة تتنامى باستمرار ولن تتناقص في المستقبل المنظور. يؤكد الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" أن "التقاليد" تعمل عمل القانون المستتر غير المكتوب، أنها تمثل سلطة غير مكتوبة لكن متفق عليها يمارسها الناس بإرادتهم وبشكل عفوي لذلك هي قابلة للتحور والتطور مع الزمن ومع تغير ظروف العصر. هذا ما جعل الشاعر الإنجليزي "تي أس إليوت" يقول: إنه إذا كان الهدف من التقاليد هو مجرد الاتباع فالأفضل تركها جانباً والبحث عما يلائم ويواكب العصر. ربما هذا يجعل من التقاليد الجديدة التي سوف تنشأ عن الممارسات الافتراضية مقننة ومقبولة وقد تصبح جزءاً من الثقافة السائدة التي يرى من يخالفها على أنه يخالف النظام الاجتماعي نفسه. هذه ليست مبالغة، على كل حال، فدراسة دينامية أي مجتمع تشير إلى قدرة الأفراد والجماعات على ابتكار التقاليد في حدود المقبول وغالباً ما تكون الظروف الاستثنائية مجالاً خصباً تحدث فيه تحولات شبه جذرية في النظام الاجتماعي. ويبدو أن الظروف سانحة مع العزل الاجتماعي الذي يفرضه كوفيد-19 الذي جعل الناس يبحثون عن حلول تتيحها لهم تقنية العصر. المخاوف التي يبديها كثير من علماء الاجتماع حول إذا ما كان الناس سوف يعودون إلى سابق عهدهم أو سيستمرون في ممارسة التقاليد الجديدة، هذا متروك للأيام القادمة لكن علينا أن نستعد لكل السيناريوهات.