لا أحد يفضّل العزلة والانطواء، وهو ليس بظاهرة صحية، ولكنه قد لا يكون مزعجاً في بعض المواقف، وقد يلجأ الناس للاعتزال، ويكون ذلك مقبولاً ممتعاً لهم، حتى تكون في أحيان كثيرة جزءاً من الشخصية، كما أنّ الانطواء سلوك اجتماعي يعاني منه بعض التلاميذ في مرحلة الطفولة أو بداية المراهقة؛ مما يؤثر على توافقهم الشخصي، والاجتماعي، إلاّ أنّها غير شائعة ونسبتها لدى الإناث أعلى. وكثيراً ما يُساء فهم الانطواء، فالبعض يلوم المنعزل، ويرى في ذلك بلادةً، وجبناً، وانكماشاً لا داعي له، بينما سهلت وسائل التواصل الاجتماعي على الجميع الاختلاط مع المجتمع، من خلال التطبيقات والبرامج المنتشرة في الأجهزة المحمولة، التي قرّبت البعيد. حب العزلة كشفت «عفاف» أنّها تعودت على الوحدة منذ أن كانت في المرحلة الابتدائية، فهي لا تستطيع أن تستوعب دروسها إلاّ عندما تكون لوحدها، حيث أنّها تفضل الهدوء، وتنامت مع الأيام هذه الرغبة، وتحولت إلى حب للعزلة والانفراد مع نفسها، حتى بعد أن تخرجت من الجامعة لا تشعر براحة إلاّ عندما تكون مع نفسها، مبيّنةً أنّها لا تجتمع مع أسرتها إلاّ عند وضع سفرة الطعام، وأحياناً تطلب إحضار طعامها إلى غرفتها، وعلى الرغم من أنّها تشعر في داخلها برغبة في الاجتماع مع أهلها في البيت أو مع صديقاتها وزميلات الدراسة، إلاّ أنّ هذا لا يحدث إلاّ في فترات متباعدة، أثناء المناسبات أو الواجبات الاجتماعية التي يتحتم عليها المشاركة فيها، موضحةً أنّها الآن قلقة على حياتها الجديدة مع خطيبها، حيث أنّها تخشى أن تفقد حريتها ووحدتها!. واقع التقنية وبيّنت «الهام» أنّها انطوائية ولا يعجبها أن تحتك بالأخريات كثيراً، سواءً في الكلية أو خارجها، موضحةً أنّ المثل القديم «مكره أخاك لا بطل» يعبر عن حضورها للمناسبات الاجتماعية، مشيرةً إلى أنّها مرتاحةً كثيراً إلى حالها، حيث تحب البقاء وحيدة، لافتةً إلى أنّ التقنية جعلت الجميع متواصلاً، مضيفةً: «في السنوات الآخيرة بتنا في الواقع مع الجميع من خلال التقنية، فأنا أتواصل مع شقيقاتي وصاحباتي عن طريق (الواتس أب) أو (الفيسبوك) وأحياناً (السكاي بي)، يعني موجودة مع من أحب لكنني في غرفتي أو في زاوية الصالة، ولست أنا التي تعيش هذه الحياة، فهناك الملايين من البشر الآن مثلي، والبركة في التقنية». العمل والعزلة وأوضحت «منى» أنّها اعتادت الوحدة والانطواء؛ لأنّ هوايتها الرسم، وهو يتطلب ممن يمارسه أن يكون وحيداً مع أدوات عمله، مضيفةً:» «تأتيني شقيقتي وأنا أرسم تريد أن تتحدث معي فتجدني مشغولة، تجلس قليلاً وبعدها تذهب بعيداً عني، وما يقال عن الرسم يشمل كل من يمارس عملاً إبداعياً، فوالدي مثلاً رجل أعمال، لكن طول وقته لما يأتي على البيت يذهب إلى غرفته، ويطالع برامجه المفضلة». العالم الافتراضي للفتاة على «النت» أفضل من معاناة الواقع عزلة القراءة واعترفت «سعاد» أنّها تعيش العزلة ضمن حدود، إلاّ أنّ هناك وقتاً مخصصاً تقضيه مع أسرتها وتشارك في بعض الأعمال المنزلية، خصوصاً أيام الإجازات أو نهاية الأسبوع، لكن جل الوقت تقضيه مع نفسها، حيث تمارس هواياتها، مبيّنةً أنّها تحب القراءة، خصوصاً الروايات، كما تتابع بعض الأفلام، بحكم سنها كطالبة جامعية، وتفضل أفلاماً قد لا تصلح لإخوتها الصغار، لذلك تنزوي في غرفتها وتتابع ما تحب من دون أن يزعجوها، أو تزعجهم. ضغطة زر وبيّنت «شيخة» أنّ من أجمل اللحظات تلك التي يقضيها الإنسان مع نفسه، فهي تتبنى المثل القائل: «ابعد عن الشر وغني له»، لذلك تعودت ومنذ الصغر أن تكون لوحدها، موضحةً أنّهم يعتبرونها انطوائية ومريضة نفسية، مؤكّدةً على أنّها تحب أن تعيش مع نفسها، مضيفةً: «لقد حققت نجاحات دراسية، فكنت ولله الحمد متفوقة دائماً، وذلك لأنني أدرس لوحدي، ولا أحد يزعجني أو يضايقني، والآن وجود أجهزة الاتصال الحديثة والتقنيات جعلتنا مع العالم لوحدنا العالم معنا، بمعنى انتهى زمن أنت منعزل أو انطوائي، بضغطة زر تستطيع أن تتحدث مع من تحب من أهلك أو تتواصل مع شقيقاتك، وهذا ما أفعله، دائماً وحدي لكن بيني وبين الآخرين أكثر من اتصال وتواصل». اتركوني لحالي! ولفتت «سمية» إلى أنّها عندما كانت في المرحلة الابتدائية كانت اجتماعية أكثر، بل تقضي وقت الفسحة مع زميلاتها، مبيّنة ًآنذها بدأت تميل إلى العزلة والانطواء مع فترة البلوغ، وصارت تشعر بحب للوحدة وأن تكون مع نفسها، مضيفةً: «لست أدري ما السبب، ربما شعور داخلي أثر على سلوكي، ومع الأيام تعودت على ذلك، وضاعف هذا الميل متابعتي للدراسة والمذاكرة، والتي تدفعني إلى العزلة حتى أذاكر من دون إزعاج أو مضايقة من إخوتي وشقيقاتي، وفي المرحلة الجامعية زادت العزلة بحكم تضاعف مسؤولية المذاكرة والدراسة، والحاجة للمزيد من التركيز والاهتمام بالمستقبل، ووالدتي تحاول دائماً إخراجي من عزلتي، كذلك شقيقاتي، لكنني أشعر بأنني جداً طبيعية، فهذه حياتي وأنا سعيدة بها، حتى أنني اقول لهم أحياناً اتركوني لحالي». مذاكرة جماعية ورأت «فاتن» أنّ من أسباب دخول الفتيات إلى عالم العزلة يعود لأنّ ظروفهن تتحكم فيها العادات والتقاليد، حيث تطغى ثقافة «العيب» على فكر المجتمع، مضيفةً: «كانت عندي زميلة دراسة في مرحلة الثانوية، وطلبت مني أن أذاكر معها، وعندما أخبرت والدتي برغبة زميلتي ودعوتها لي رفضت بحدة، بل حلفت يمين أني لن أذاكر إلاّ وحدي وفي البيت أو داخل المدرسة فقط، ومن يومها التزمت بطلب والدتي، ورغم اعتذاري لزميلتي، إلا أنّي فوجئت بأنّها تتهرب مني، بل وتشنع علي بأنّي متكبرة، ومغرورة، وشايفة نفسي، وابتعدت الزميلات عن صداقتي، وهكذا تعودت من يومها على العزلة وأن أعيش مع نفسي». راحة وبركة وقالت «فتحية»: «في هذا العصر الحديث لا يوجد ما يسمى بالعزلة ولا يمكن اعتبار الانطواء ظاهرة، فالعالم صار بلداً واحد وقرية كونية صغيرة، بل إننا نعيش أشبه ما نكون في مكانٍ لا حواجز فيه ولا مسافات، حيث أتواصل مع أخي الذي يدرس في استراليا عبر (الواتس أب) و(السكاي بي) وكأنني معه في صالة المعيشة، أما العالم الواقعي فالبعد عن الشر غنيمة، أنا لست متشائمة، بل أحسن الظن في الجميع، لكن في هذه الحياة تغيرت فيها المفاهيم، وكل واحد يسعى لمصلحته، والذي فيه سعادته، فمتى شعرت براحتى وأنا في هذه الوحدة والعزلة فهي خير وبركة». دعم أسري وأضافت «ليلى العبدالمحسن» -أخصائية نفسية-: «على الأسرة ومنذ البداية مهمة كبيرة فهي التي تساعد الأبناء وتمنعهم من الوقوع في العزلة والانطواء، والمطلوب هو الحياة المشتركة حتى تسود بين مختلف أفراد الأسرة الروح الجماعية والشعور المشترك والإحساس بالآخر، وعلى الأم أو الأب البحث عن الأسباب وراء العزلة أو الانطواء لأن ربما هناك مشكلة، قد يكون لدى الابنة موضوع تعاني منه أو شيء خاص لا تستطيع البوح به أو حتى كشفه، لذلك تهرب إلى العزلة والوحدة، وربما هناك اخفاق دراسي، وتراجع في مستوى درجات الابنه أو الابن، أو هناك معاناة مرضية سرية، والشيء نفسه يقع على المدرسة أو الكلية، فيجب على المسؤولات عن متابعة حالات الطالبات ملاحظة أي تغير في سلوك الطالبة، ومعالجته فوراً، ولا شك أنّ الحياة تغيرت، وبات الناس مشغولين كثيراً بالأجهزة الحديثة التي سرقت أوقاتهم، لكن هذا لا يمنع من تواجدهم بجوار بعض وهم يمارسون هواياتهم في تصفح (الواتس أب) أو (الفيسبوك)، أو حتى قراءة كتاب». تطبيقات أجهزة الجوال الحديثة سهّلت على الفتيات التواصل عن بُعد