منذ أن أخدت التقنيات الرقمية تزاحم الإنسان في أداء الأعمال، تزايدت التساؤلات والمخاوف حول مستقبل الأعمال، وبمعنى آخر هل ستختفي بعض الوظائف المعتمِدة على المهارات البشرية؟ وما تأثير ذلك على مستقبل الأجيال الشابة من الخريجين؟ ازدادت هذه المخاوف مع التطور التكنولوجي الرقمي السريع، وأضحت هناك حاجة لاستشراف آفاق مجالات الأعمال المستقبلية. وجاءت أزمة كورونا التي فاجأت العالم على حين غرة ومن عدو خفي، لتلقي بظلالها على المشهد العالمي حيث أسهمت جليا في تسارع توظيف التكنولوجيا بصورة شاملة، وأضحى التعليم عن بعد، والصحة عن بعد، والتسوق عن بعد، والعمل المكتبي عن بعد، والتقاضي عن بعد، شواهد حية على الأداء الإيجابي الفارق للتكنولوجيا، إذ لا يمكن أن تتوقف عجلة الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومصالح الناس في أي بقعة من بقاع الأرض، وأمسى التواصل الافتراضي هو الأساس في الاجتماعات والمؤتمرات والمنتديات. في هذا المجال، أوضحت دراسة أعدها الاستشاري "ماكنزي"، قبل أزمة كورونا، عن أن 41 % من الوظائف في المملكة، قابلة للتحول إلى الأتمتة، وحتماً أن هذه النسبة تزايدت في ظل أزمة كورونا، وهنا يحق التساؤل أين سيتم استيعاب الشباب في مستقبل الأعمال في ظل هذا التقدم التكنولوجي الهائل، وهل ستتولد وظائف جديدة في ظل هذه التطورات التكنولوجية المتسارعة، وهل ستسهم هذه الأزمة في إحراز تقدم بخطوات أوسع وأسرع في تطوير اقتصادات الأمم والشعوب، وكيف يمكن الاستثمار في التدريب والتعليم المستمر للشباب في ظل المتغيرات المتسارعة، وما المجالات التي يجب توجيههم لها؟ ثمة مقولة معروفة مفادها أنه "من رحم الأزمات تتولد الفرص"ومثالا على ذلك، وفي خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة توالت وتسارعت اختراعات وابتكارات البشرية في القرن العشرين حيث تم ابتكار أحدث الطائرات والقطارات وتم غزو الفضاء، وتقدم علم الذرة والطب، وما يزال وازدهرت كافة العلوم، وفي التسعينات هيمنت ثورة الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات وتطورت تقنيات الكمبيوترات الشخصية والهواتف الذكية، وحققت شركات تصنيع الحواسيب والهواتف الذكية أرباحا كببرة، وتطورت اقتصاديات الدول تبعا لثورة الاتصالات، وتولدت خلال هذه الحقبة أنماط جديدة من الوظائف وتأسست العديد من الشركات العملاقة في التصنيع والخدمات والتشغيل وغيرها تبعا لتلك المرحلة، وحتما ستكون الأزمة الحالية، الأشد من تلك، باعثا على العديد من الإنجازات والابتكارات والاستثمارات على مستوى العالم، فالحاجة أم الاختراع كما يقولون، وكشاهد حي قريب على ذلك، وقبل أيام معدوادات، اجتمع الوزراء المعنيون بالاقتصاد الرقمي لمجموعة العشرين (G20) افتراضيا، وفي رحم الأزمة، برئاسة المملكة، وأوصوا ضمن قرارات عدة، مثلا، إلى تطوير الابتكارات والتقنيات الرقمية للصحة وتطبيق الذكاء الاصطناعي في مكافحة الأوبئة ومراقبتها والوقاية منها، وتطوير اللقاحات والعلاجات ومراقبة المرضى عن بعد، ولاشك أنه ستخرج مسارات علمية وعملية من العشرين الكبار في هذا المجال وغيره لتفعيل هذه القرارات، وستتولد تبعا لذلك وظائف ذات أنماطٍ جديدة متعلقة بمثل هذه التقنيات وغيرها وكذا لتطوير تقنيات سلاسل الإمداد (supply chain)، فهل يمكن في ظل هذه الأزمة العالمية، استشراف مستقبل تقني مزدهر في بلادنا، وكيف يمكن تسخير قدرات الشباب السعودي المتسلح بالعلم في إدارة هذا المستقبل التقني المزدهر؟ يُقال إن الرؤية هي أول العمل، وفي ذلك تبنت المملكة رؤية 2030 لتكون منهجا وخارطة طريق لعمل اقتصادي تنموي طويل الأمد، واستهدفت هذه الرؤية الطموحة فيما استهدفت، تنمية الاقتصاد الرقمي، وجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير أعمال الحكومة الإلكترونية والحوكمة، وقد شهدنا بالفعل على أرض الواقع تطورا جذريا في المجالات التقنية، بمعنى أن المملكة ستحتضن بنية تحتية رقمية متطورة وستستقطب استثمارات عالمية واعدة وستصبح كما أرادتها الرؤية مركزا للقدرات اللوجستية بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهذه الخدمات اللوجستية مثلا تعتمد بشكل كبير على التقنية والذكاء الاصطناعي، وتحتاج إلى الكفاءات في تلك المجالات، ويعني ذلك أن الاستثمار في هذه التقنيات قادم بإذن الله تعالى وسيكون للشباب السعودي الواعد المسلح بالعلم قدما راسخة في هذا المجال، عن طريق اختيار التخصصات الحيوية كالذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والأمن السيبراني، والطاقة المتجددة وهندسة الروبوتات، وهندسة الطباعة ثلاثية الأبعاد، وغيرها، مع دعم وتشجيع أصحاب المواهب والاختراع والحالمين بمستقبل تقني مزدهر، وهذا الدعم ضمن مكونات الرؤية وركائزها أصلا. لاشك أن الخيار الأمثل هو تعزيز عمليات التعليم المستمر للشباب في تلك المجالات وغيرها (long life learning) لكي يكون سلوك التعلم المستمر المتجدد مسلك حياة لمواكبة المتغيرات التكنولجية والتحديات التقنية والأزمات، مع تقوية وتعزيز الدوافع الكامنة لدى الشباب في تلك المجالات، وتنمية المهارات التقنية المتعددة للفرد، ولاشك أن شباب الرؤية الطموح الواعي قادر على كسر هذا التحدي بكل وعي ومسؤولية واقتدار لتحقيق مرتكزات الرؤية وأهدافها.