من الأمور التي تُميّز كتاب (الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور) للدكتور سعد الصويان هو أنه من الكتب القليلة الجديرة بوصف: «دراسة في الأدب الشعبي»، والميزة الفريدة التي يجدها القارئ هي قدرة الباحث الفائقة على الجمع بين التنظير والتطبيق في جميع أبواب الكتاب، لاسيما الأبواب التي تتعرّض لموضوعات ذات حساسية شديدة كما في باب (تداخل التاريخ والأسطورة)، فالقضية التي يتناولها ببراعة وعمق في هذا الباب يُهملها الباحثون أو يمرون عليها مروراً نظرياً سريعاً نظراً لأن الحديث عنها قد يستدعي نقد مرويات أصبحت بمنزلة التاريخ الثابت، أو لأن الحديث عنها قد يمس أخباراً مشهورة تتعلق بشخصيات شعبية معروفة. ومن القضايا الشائكة التي كان الصويان شجاعاً في تناولها، في الباب المشار إليه، مسألة «تحول السرد التاريخي إلى محاكاة للسرد الأسطوري»، وقد مثّل عليها بنماذج عديدة تُدلّل على تسلّل عناصر أسطورية من مرويات أسطورية متداولة إلى بعض المرويات الشفهية التي تتعلق ببطولة فرسان القبيلة وببعض الأحداث والنزاعات التي كانت تدور بين القبائل. وكان أيضاً قد سجّل في كتابه (أيام العرب الأواخر) ملاحظة ذكية تشير إلى حضور «المبالغات» في المرويات الشفهية فقال: «لاحظت أن الأشخاص اللصيقين بأبطال القصة يعرفونهم جيداً وتتفق روايتهم في عدد الأشخاص وأسمائهم، على خلاف الرواة البعيدين الذين لا يعرفون إلا بعض الأسماء، كما تختلف الأدوار الرئيسة لأبطال القصة باختلاف الرواة حيث إن كل راوية من الرواة اللصيقين بأبطال القصة يعطي دوراً أكبر لقريبه». ولا بد أن يلحظ الناظر في كثير من أخبار المعارك أو «المناخات» و»الأكوان» ما ينشأ عن المبالغات من عناصر أسطورية أو خرافية يتحاشى كثير من الرواة أو الباحثين نقدها! ومن المؤلفات الرائعة التي أكّدت على حضور المبالغة في المرويات الأدبية وما تؤدي إليه من انتقال التاريخي إلى الأسطوري كتاب (ميثولوجيا الأيام: البعد الأسطوري في المرويات الأدبية والتاريخية لأيام العرب الجاهلية) للباحث عبدالله العقيلي، فقد أكد أولاً على أن المرويات السائدة في تلك الحقبة «كان يتسلل إليها شيء من المبالغة في تمجيد الذات القبلية، وتمجيد شجاعة الأبطال، وذلك في مواضع النصر، أما لدى الهزيمة فثمة المبالغة في حجم الأعداء، وتبرير الهزيمة»، ثم أورد نماذج عديدة على تلك المبالغات التي كانت تصوّر المشاجرات والمناوشات الصغيرة في صورة حروب طاحنة، ومن بينها ما أورده أبو الفرج الأصفهاني عن رواة متقدمين ذكروا أن الأوس والخزرج لم تكن بينهم أيام مشهورة كثيرة غير يوم بُعاث، خلافاً للروايات التي رسّخت أن بينهم حروبا كثيرة، مع أن الحقيقة هي أنهم «كانوا يخرجون فيترامون بالحجارة ويتضاربون بالخشب»! وعندما استمعت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لقول أبيها عن يوم محجِّر الذي قاده زيد الخيل: وجمعٍ كمثل الليلِ مرتجزِ الوغى كثيرٍ حواشيهِ سريعِ البوادرِ سألته: «كم كانت خيل أبيك هذه التي وصفت. قال: ثلاثةُ أفراس»! وأعتقد أن وجود المبالغة في أي رواية شعبية يعد مؤشراً واضحاً يضاف إلى المؤشرات التي ذكر الدكتور سعد الصويان بأنها تدل على «انزلاق النص نحو الأسطورة».