لقد أكد الرعب العالمي الذي تسبب فيه وباء كورونا أن الأمن لم يعد أمن الدولة فحسب، بل أصبح أمن كل شيء، بدءاً من الأفراد ثم الجماعات ثم الدولة وانتهاء بالأمن الدولي، كما أنه جعل الأمن منغرساً في حياتنا اليومية.. ألقت أزمة انتشار وباء كورونا المستجد (كوفيد 19) بظلالها على كثير من أسئلة الأمن في العالم في جميع القطاعات الفاعلة في الحياة اليومية، وبالتالي سوف يتحدث العالم بعد وباء كورونا الجديد لسنوات قادمة عن موضوع الأمن، أي الأمن الذي يعني كل شيء يتفاعل معه الإنسان في حياته اليومية؛ وذلك لأن انتشار الوباء في أرجاء العالم يحمل معه سمات الحروب العالمية التي تعطل بسببها كثير من مفاصل الحياة العامة والمؤسسات الحكومية، إضافة إلى تعطيل النقل العام والاقتصاد ومظاهر الحياة اليومية، وبث الرعب الجمعي واستنفار المستشفيات، ونزول الجيوش للشوارع لتأمين حظر التجول. ولم يسلم منه الواقع الاجتماعي، بل ولم يسلم منه العالم السيبراني الذي صارت فيه البنية التقنية الهشة مجالاً للهجمات الإلكترونية. وإذا كان المفهوم الكلاسيكي للأمن يشير لمعاني: حق استخدام العنف، والقوة العسكرية، وهو ما يسمى "الأمن الصلب"، متأثراً بالحرب العالمية الأولى والثانية، ثم الحرب الباردة، إلا أنه بعد انتهاء هذه الحروب، تنبهت "مدرسة كوبنهاغن لأبحاث الأمن والسلام" إلى أهمية توسيع قطاعات الأمن؛ نظراً لوجود قضايا أمنية كثيرة كانت مهمشة بسبب الحروب، وعلى اعتبار أن كل شيء يهدد وجود المجتمع ينبغي أن يعالج أمنياً، وبالتالي ظهور مفهوم الأمن الشامل وتوسيع قطاعات الأمن. يعرف الباحث البريطاني باري بوزان، وهو أحد أبرز الباحثين في مدرسة كوبنهاغن، الأمن الشامل بأنه: السعي لتحقيق التحرر من التهديد وقدرة الدول والمجتمعات على الحفاظ على هويتها المستقلة وسلامتها الوظيفية ضد قوى التغيير، التي يصنفونها بأنها معادية. وعليه يعرف الأمن بأنه: البقاء على قيد الحياة. وقد حدد خمسة قطاعات يرى أنه ينبغي أن تدرج في سياسات الدولة العليا على أنها قطاعات أمنية، في غاية الأهمية، وينبغي حمايتها والدفاع عنها، واتخاذ الإجراءات الأمنية القصوى لاستقرارها. وقد أورد باري بوزان تلك القطاعات الخمسة للأمن، وهي: القطاع العسكري، والقطاع السياسي، والقطاع الاقتصادي الذي يشمل: المؤسسة المالية والمصرفية، والأسواق المالية، والقطاع البيئي، ويركز على الحفاظ على الموارد الطبيعية وتحقيق الاستدامة فيها، مثل الطاقة والمياه والغابات والنباتات والحيوانات. وأخيراً القطاع الاجتماعي الذي يشمل: تجفيف مهددات الهُوية كاللغة والعادات والتقاليد والفنون الشعبية والثقافة المجتمعية وحمايتها في ظل العولمة. ويبدو أن الاهتمام تركز على هذه القطاعات تحديداً نظراً لتداخلها وللتحولات الكبرى التي تتعرض لها، ولانعكاساتها المباشرة على ثلاثة مستويات أساسية هي: الأفراد والمجتمع والنظام الدولي. ويؤكد وباء كورونا الجديد عمق تأثر هذه القطاعات الخمسة مجتمعة في حالات الأزمات والكوارث والأوبئة. لقد أكد الرعب العالمي الذي تسبب فيه وباء كورونا أن الأمن لم يعد أمن الدولة فحسب، بل أصبح أمن كل شيء، بدءاً من الأفراد ثم الجماعات ثم الدولة وانتهاء بالأمن الدولي، كما أنه جعل الأمن منغرساً في حياتنا اليومية، ودخل في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والصحية، مما يعني حتمية مراجعة السياسات الأمنية في جميع القطاعات، بعد وباء كورونا، ومراجعة مفهوم الأمن في أدبيات العلوم الاجتماعية والإنسانية ليكون أكثر شمولاً واستيعاباً للمستجدات. بات من المؤكد أن تخضع جميع السياسات التعليمية والصحية والإدارية والسياحية والاقتصادية والبيئية، والبلدية.. للمراجعة على أسس أمنية بعد هذا الوباء. فتقوية البنية التحتية التقنية تعد من الاستعدادات الأمنية؛ لأن الحياة العامة السريعة حجبت عن الحكومات مشكلات أمنية كثيرة كانت مهمشة، وبدأت تبرز مع سكون العالم، كما سوف تبرز فكرة قوة الدولة بذاتها وبمواردها وأبنائها، أكثر من انصهارها في العولمة. ويتكرر الظرف مع وباء كورونا الذي كشف عن قضايا كثيرة كانت تبدو تنظيمية واجتماعية واقتصادية وصحية، وتبين أنها قضايا أمنية خطيرة تهدد وجود المجتمع، وكانت مخبأة تحت روتين العمل اليومي، ويتأكد ذلك بعد نتائج مبادرة "المسح النشط" لمحاصرة كورونا في الأحياء العشوائية ومساكن العمال، حيث ارتفعت أرقام المصابين من العشرات إلى أكثر من ألف يومياً، مما يؤكد أن صحة البيئة والسكن والمساكن والتخطيط الحضري واستقدام العمالة، صارت أحد عوامل مهددات أمن المجتمع ووجوده، وليست مقتصرة على المهددات التقليدية كالجريمة والانحراف.