نعيش الآن حالة أمننة حقيقية لأزمة كورونا، حيث تحدث مسؤولون كبار عن المرض، وأنه مهدد لوجود المجتمع، من أجل تهيئة الرأي العام، وبدأ الإعلام والرأي العام يتحدثان عن الأزمة، وتقبلا حقيقة تهديداتها على وجود المجتمع، ثم اتخذت الدولة إجراءات استثنائية متتابعة بحسب تطور الخطر.. جوهر نظرية الأمننة Securitization Theory يكمن في تحديد قضية تصعب السيطرة عليها من قبل المؤسسة المعنية لوحدها؛ لأنها تحولت إلى مشكلة متضخمة تهدد وجود المجتمع، وتصنيفها بأنها تحمل تهديدات أمنية مباشرة على قطاعات المجتمع المختلفة، ومن ثم تؤمنن من خلال إجراءات معينة، تبدأ بإعلان أحد مسؤولي الدولة الكبار عن التهديدات التي تسببها المشكلة لمصالح الدولة العليا ولوجود المجتمع، من أجل تهيئة الرأي العام لاستيعاب الخطر، وتقبل السياسات الجديدة، ثم بعد ذلك تعالج باتباع إجراءات أمنية وسياسية استثنائية ومؤقتة وذات طبيعة خاصة بشروط معينة، حتى ولو خالفت دستور الدولة وأنظمتها. وهذا توضيح لها بتبسيط كبير، وتعد أمننة كورونا مثالاً واضحاً لتطبيق النظرية. ظهرت نظرية الأمننة لأول مرة في أواخر الثمانينات من خلال أعمال الباحثين في مدرسة كوبنهاغن لأبحاث الأمن والسلام، وهي أهم مدرسة بحثية في العالم معنية بالأمن، مثل باري بوزان وأولي ويفر، وحظيت باهتمام كبير من أهم مدارس الأمن والسلام الأوروبية. يؤكد الباحثون على أنه يمكن التأكيد على ثلاث خطوات رئيسة في الأمننة؛ الأولى: إعلان رئيس دولة أو أحد المسؤولين الكبار للرأي العام عن وجود تهديد مصيري وخطر على الدولة. الثانية: تلقي الرأي العام لإعلان المسؤول بالقبول ولو ضمنياً من خلال أحاديث الناس في المجالس وفي الصحف عن المشكلة، والموافقة عليه وتأييده ولو بالصمت. الثالثة: البدء في اتخاذ الإجراءات الطارئة والاستثنائية. لقد ظهر كثير من رؤساء الدول في العالم الغربي والعالم العربي، وأصبحت تقام مؤتمرات صحفية مستمرة يومية للجان إدارة الأزمة في كل دولة للتحدث إلى الشعوب عن خطر كورونا على الوجود البشري، واتخذت أكثر بلدان العالم خطوات جريئة لمواجهة الوباء في مدد متفاوتة، وصارت القرارات تصدر تبعاً لكل مرحلة أسبوعية من انتشار الوباء، مما تطلب عزل الحدود بين الدول، بل عزل مدن بأكملها، وأحياناً عزل أحياء داخل المدن. امتازت المملكة بالأسبقية والإدراك المبكر للخطر، واتسمت بعض الإجراءات الأمنية والصحية والتوعوية بالحزم واتخاذ خطوات غير مسبوقة، إلا أن أكثر القرارات إيلاماً في نفوس المسلمين كان قرار تعليق العمرة، ثم إيقاف الطواف مؤقتاً، ثم إغلاق الحرمين الشريفين، مع إغلاق مداخل مكة والمدينة، وقد تقبل العالم الإسلامي هذه القرارات لأنها جاءت في سياق أمني غير تقليدي، ودعمت ببيان من هيئة كبار العلماء السعودية، مما أعطى مؤشراً واضحاً على الاعتراف بقوة إدارة أزمة وباء كورونا والرغبة الجادة في تجنيب المسلمين للمخاطر المهددة لحياتهم. ونعيش الآن حالة أمننة حقيقية لأزمة وباء كورونا المستجد، حيث تحدث مسؤولون كبار عن المرض، وأنه مهدد لوجود المجتمع، من أجل تهيئة الرأي العام العالمي والمحلي، وبدأ الإعلام والرأي العام يتحدثان عن الأزمة، وتقبلا حقيقة تهديداتها على وجود المجتمع، ثم اتخذت الدولة إجراءات استثنائية متتابعة بحسب تطور الخطر، مثل: تعليق الدراسة في جميع مدارس المملكة، وتعطيل العمل الحكومي، والحجر الصحي على بعض المدن والأحياء لانتشار الوباء فيها، وتشديد الرقابة على جميع المنافذ الحدودية، واحتكار حق إدارة المعلومات الخاصة بانتشار وباء كورونا وطرق التوعية بالوقاية منه في وسائل التواصل الاجتماعي، ومساءلة كل من يجتهد وهو غير مؤهل ولا مرخص له. وهي تجربة جديرة بنمذجتها على القضايا التي تهدد أمن المجتمع ووجوده. تمثل تجربة الأمننة منهجية ملائمة للتعامل مع عدد آخر من القضايا والمشكلات الأخرى المحلية، والأقل خطورة من وباء كورونا، ونموذجاً قوياً لتكرار ممارسته على القضايا التي يمكن أن تهدد وجود المجتمع، مثل: الاتجار بالبشر، وتهريبهم عبر الحدود، إضافة إلى أنها فرصة لبناء خبرات من الداخل وتوحيد إدارة الأزمات بيد لجان عليا تضم جميع المؤسسات المعنية، كما هو واقع فعلياً الآن، وذلك لأن الأزمات تتسم بالتجانس في أعراضها الاجتماعية والاقتصادية في حال تكرارها.