أدى التطور التكنولوجي مع بداية الثورة الصناعية الرابعة إلى ظهور مفهوم العمل عن بعد، وهو نظام عمل يؤدي فيه الموظف الأعمال الموكلة إليه من قبل جهة عمله بعيداً عن مقر العمل الرسمي حيث يتسم بالمرونة المكانية ويعتمد بشكل أساسي على تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. وفي السنوات الأخيرة اتجهت أغلب البلدان المتقدمة إلى البدء بتطبيق هذا المفهوم حيث يوجد 5 % من القوى العامله في المملكة المتحدة يعملون من المنزل، وأكثر من 20 % من القوى العاملة في الولاياتالمتحدة الأميركية وفي المقابل يتوقع المحللون أنه من الممكن تحويل 50 % من الوظائف الحالية إلى العمل عن بعد. كما انتشر في الآونة الأخيرة استخدام تقنيات كثيرة مثل الواقع المعزز و"الفيديوكونفرس" في إدارة الاجتماعات عن بعد وحضور المؤتمرات والتدريب والتوظيف. ويتيح العمل عن بعد مزايا كثيرة للعاملين كتوفير المال والوقت والجهد فلا يحتاج الموظف تخصيص ميزانية للمواصلات والملابس والوجبات الغذائية بالإضافة إلى المرونه في ساعات العمل فقد يعمل الموظف لساعات طويله دون الحاجة إلى ترك منزله والبعد عن عائلته مما قد يؤثر سلباً على استقراره النفسي والأسري. أما على مستوى الدولة, فقد يخلق فرصاً وظيفية لإعداد كبيرة من الباحثين عن العمل، ويقلل من نسبة البطالة وخصوصاً بين النساء، ولن يعود الموقع الجغرافي شرطاً للتوظيف، وهذا سيدعم التنمية المناطقية وعلى صعيد آخر سيكون له تأثير بيئي وصحي مثل خفض نسبة التلوث من جراء عوادم السيارات، وتقليل نسبة الحوادث المرورية. تماشياً مع الإجراءات الاحترازية لأزمة كورونا، وتعليق الحضور لمقرات العمل في جميع الجهات الحكومية والقطاع الخاص في المملكة, يظهر العمل عن بعد كخيار بديل عن المكتب التقليدي. حيث بادرت أغلب المؤسسات الحكومية والخاصة إلى توفير الأدوات اللازمة لقيام أغلب العاملين بوظائفهم عن بعد. ومما ساهم في سرعة تطبيق القرار وجود "بنية تحتية تقنية" متقدمة حيث تبوأت المملكة المرتبة العاشرة دولياً في جودة وسرعة الإنترنت، وكذلك جود قوانين وأنظمة سهلت في سرعة تطبيق هذا الإجراء. وقد أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية برنامج العمل "عن بعد" وهو أحد المبادرات الوطنية المهمة بهدف تجسير الفجوة بين أصحاب الأعمال والباحثين عنها، والذين تحول عدة عوائق بينهم وبين حصولهم على فرص العمل المناسب، وكما أصدرت أيضاً وزارة التجاره دليلاً إرشادياً للموظفين والمديرين عن العمل عن بعد. ولكن كغيره من الأنظمة الجديدة يواجه العمل عن بعد بعض التحديات التي يجب العمل على مواجهتها، وإيجاد حلول مناسبة لحفظ حقوق العاملين وأرباب العمل مثل التأمين الطبي للعامل، والحقوق المالية، والأمان الوظيفي وتقييم الأداء وأخلاقيات العمل. والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هل سيكون العمل عن بعد خياراً متوفراً في جميع القطاعات العامة والخاصة؟ ولنجاح هذه التجربة مستقبلاً يجب الاستفادة من تجارب الدول الآخرى الذين سبقونا في تطبيق مفهوم العمل عن بعد مثل الصين والهند وماليزيا، وأن نعمل على بناء ثقافة عمل جديدة لدى جميع القطاعات والمؤسسات والأفراد، والأهم دعم صناعة تكنولوجيا المعلومات، والاتصالات وإعادة صياغة قوانين وتشريعات أنظمة العمل. وهنا يحضرني مقولة ونستون تشرشيل رئيس وزراء بريطانيا "الصعوبات التي تتمكن منها، فرص محققة" لذلك يجب أن نحول هذه الأزمة إلى منحة، والمنحة إلى فرصة, فأزمة كورونا أجبرت الكثير من القطاعات إلى التحول إلى العمل عن بعد وهذه فرصة لن تتكرر، ويجب الاستفادة منها والعمل على تطويرها. *محلل استراتيجي للسياسات العامة