ليست النكتة وسيلة ترويح عن الذات وتخفيف الضغوط، أو حتى أداة نقد اجتماعي وحسب، وإنما هي إنتاج معرفي آني، يرصد التحولات، ويعطي مؤشرات يمكن قياسها عن الطريقة التي يفكر بها الناس.. ينقل زيجمونت باومان في كتابه "الخوف السائل" عن كريج براون قوله: في كل مكان ترتفع فيه درجة حرارة التحذيرات العالمية، وكل يوم تظهر تحذيرات عالمية جديدة من الفيروسات القاتلة، والموجات القاتلة، والمخدرات القاتلة، والجبال الجليدية العائمة القاتلة، واللحوم القاتلة، واللقاحات القاتلة وغيرها من الأسباب الممكنة للموت الوشيك، وكانت هذه التحذيرات مرعبة في أول الأمر، ولكن بعد فترة بدأ الناس يستمتعون بها. تعكس مقولة كريج الشعور الجمعي والفردي في مواجهة الأزمات والأوبئة والأمراض، حيث يتلقونها بالصدمة والذهول، ثم ما تلبث أن يتكيف معها الناس، ويطلقوا نكات التحدي والرغبة في المقاومة والتكيف مع الأزمة. وإذا كانت بعض نظريات تحليل النكتة تعزوها إلى التناقض الذي يبدأ التعايش مع الأزمات بمنطق، وينتهي بمنطق مناقض، فإن نظرية التخفيف "Relief Theory" تعزو النكتة إلى أوقات الأزمات بدعوى أن الضحك ينتج لتخفيف الضغط النفسي والاجتماعي، وفي هذه الحالة لا تهدف النكتة إلى التحقير من شأن أحد، ولا تتبنى موقف التفوق الاجتماعي على أحد، كما هو الحال في صناعة النكات والطرائف في الحياة اليومية. درس الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الفكاهة والضحك في نظرية تعرف باسم "النشاط الآلي حول الضحك"، وأكد فيها أن الضحك شيء فطري (آلي) في الإنسان، ويهدف إلى كسر التصلب والجمود في المواقف الاجتماعية، ويرى أن للضحك ثلاثة شروط أساسية هي: وجود سبب اجتماعي، وغياب الشعور العاطفي أو الانفعال، ووجود وظيفة اجتماعية للضحك. ويرى المحلل النفسي الشهير سيجموند فرويد أن الضحك والفكاهة واحدة من أهم إنجازات الإنسان النفسية، بوصفها دفاعات نفسية لمواجهة المخاطر المهددة للذات. يلحظ من تحليل نماذج من النكت المتداولة في المجتمع السعودي عن وباء كورونا أنها كانت صمام أمان للمزاج العام، وأحد أهم الأدوات الناعمة والمتخفية في الحياة اليومية لتخفيف حدة التوتر الناتج من انتشار الوباء، وقد تركزت على استدعاء مقاطع فيديو قديمة والتعليق عليها أو إعادة تركيبها بحيث تكون ملائمة لحالات الملل من حظر التجول والحجر المنزلي، أو لتجسيد عدم التجانس في العلاقة بين الزوجين، وبعض النكات نص مصنوع ينتقد حجم التباعد بين أفراد الأسرة قبل حظر التجول، وأن الحظر أسهم في إعادة تعارفهم من جديد، لدرجة أن يتعرف الأب على أولاده، والأولاد على أبيهم من جديد، وهذا مؤشر مهم لوعي الإنسان العادي بجوانب قصوره بمكانة الأسرة وحقوقها، واستعداده للنقد الذاتي. ليست النكتة وسيلة ترويح عن الذات وتخفيف الضغوط، أو حتى أداة نقد اجتماعي وحسب، وإنما هي إنتاج معرفي آني، يرصد التحولات، ويعطي مؤشرات يمكن قياسها عن الطريقة التي يفكر بها الناس، وعن تصوراتهم للحياة من حولهم، ورؤيتهم للأزمة والأوبئة. وتؤدي النكتة وظيفة اجتماعية بحسب السياق الاجتماعي الذي تنشأ فيه، وتراعي الظرف المكاني والزماني، وقد أسهمت النكتة في المجتمع أثناء أزمة وباء كورونا في النقد الاجتماعي الخفي من خلال حث الناس غير المبالين بالنصائح الصحية على المكوث في المنازل عبر التقليل من شأنهم وتصويرهم في النكتة بأنهم بلهاء، بشكل فوَّت الفرصة على من يرغب في المغامرة بالخروج، كما أسهمت في الدعوة للعودة إلى الأسرة. ولم يتداول المجتمع أي نكتة تسخر من أداء الحكومة في إدارة الأزمة، بل تحولت سياسات إدارة الأزمة إلى مجال فخر واعتزاز وطني، وذلك للمهنية العالية التي أديرت بها الأزمة، التي حظيت باعتراف شعبي وامتنان مجتمعي كبير؛ مما يعكس شعور المجتمع بكفاءة الأداء الحكومي في إدارته للأزمة، في حين قد يظهر ذلك في بعض المجتمعات الأخرى التي لم تحقق النجاح الذي يأمله المجتمع. ولم يمنع حظر التجول والحجر المنزلي من انخفاض إطلاق النكات والفكاهة، بل زادها وأوجد لها مجالات جديدة، وذلك بفضل تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تكثف اللجوء إليها بوصفها أحد أهم مصادر تكوين الرأي العام الجديد، ويبدو أن المجتمع استطاع حماية نفسه من أجواء الحزن والكآبة التي بثها انتشار وباء كورونا، ومقاومته بالضحك وصناعة النكتة وإشاعة روح الفكاهة من خلال تبادل مقاطع فيديو إما حقيقية وإما مركبة من مقطعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.