في المجتمع السعودي تزدهر «النكتة» والنكتة هي دائماً تعتمد على «الخبرة الاجتماعية» حيث تنفجر النكتة دائماً من مفارقات تحدثها «الثقافة» في كل مجتمعٍ من المجتمعات، - مثلاً - في المجتمع السعودي تنشط «النكتة الاجتماعية» بالذات، تأتي بعدها نكات السخرية المناطقية، أو القبَليّة، أو الدينية بين تيارٍ وآخر، لكن ضعف الجانب السياسي في النكتة ربما يعود إلى كون المجتمع بطبعه «غير سياسي» بمعنى أن همومه تنصبّ على «الدين، والاقتصاد». فالمجتمع السعودي عاش طفرات اقتصادية كثيرة، وعاش تجارب مؤثرة، لذا كثيراً ما تسكنه المطالب والهموم الاقتصادية، أو السجالات الثقافية والفكرية التي يتابعها المجتمع عبر الإعلام. والنكتة في الغالب تنبت بلا مصدر «من دون قائلٍ مباشر» تخرج من حسٍ اجتماعي، أو من حالة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وهي في الغالب حالات ضاغطة وحادّة يتنفّس المجتمع عبر النكتة ليخفف وطأة الكارثة، فلكل مرحلة نكاتها الخاصّة. فالنكتة تأتي بلا قائل، تصبح كاللقيط لا تجد من يتبناها، قد تتطور لتتشكّل عبر كاريكاتير، أو مشهد كوميدي، أو فصل مسرحي، لكنها تحتفظ بأصلها الاجتماعي، وبنطفتها الأساسية المتخلّقة من نكتة. وإذا أردنا فحص موقع النكتة من التنظير الفلسفي، فإن النكتة تعود دائماً إلى «نظرية الضحك» فنجد أن الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، وأرسطو، وكانط، وشبنهور، وبرجسون، ونيتشه، وغيرهم لهم إسهامات في نظرية الضحك، ربما جاء الحديث عن نظرية الضحك عرضاً كما هو الحال لدى كانط في كتابه «نقد ملَكة الحُكم» أو حتى لدى أفلاطون، أو شبنهور، ومن قبلهم أرسطو، حيث تجيء كاستطراد داخل نظريات تتعلق بالجماليات. أما برجسون فقد دوّن كتابه (الضحك بحث في دلالة المضحك. ترجمة : سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدايم). أما كيركجارد فقد دوّن أكثر من كتاب (لم أشاهدها مترجمة إلى العربية) مع أن عبد الفتاح إمام دوّن بحثاً بعنوان (مفهوم التهكم عند كيركجارد). ويرى شاكر عبد الحميد في كتابه (الفكاهة والضحك .. رؤية جديدة) - وهو مرجعي في فلسفة الضحك هنا - يقول في فصل «فلاسفة الضحك» : (هناك ارتباط بين الفلسفة العامة للفيلسوف وبين أفكاره الخاصة بعلم الجمال - الاستطيقا - وبين أفكاره المتعلقة بالضحك فالضحك وثيق الصلة بالإبداع والفن). برونو يكتب أن ثمة رابطة بين البكاء والسرور حينما يكتب : (إن أشكال الضحك تأتي ممزوجة بدرجة ما من الحزن والبكاء، وأن كل بكاءٍ إنما يخفي خلفه درجة من المتعة والسرور)، وهذا يذكّرنا بالأسلوب الذي يجمع بين الجدية والسخرية لدى الكلبيين والرواقيين، في أسلوبهم الخطابي الجامع بين التهكّم والدلالة العميقة. فهم على عكس أفلاطون «الجاد» الذي درس الضحك على سبيل التحذير منه، فهو رأى أن التهريج من السلوكيات التي يجب على النخبة الارتفاع عنه، ويكتب في هذا تحذيره الشهير من أن يكون المرء (عامياً أو مبتذلاً في سلوكه، أو أن يشلك في الشارع مثل السوقة، أو الدهماء، هكذا فإنه ينبغي على حرّاس الجمهورية أن يواجهوا كل اندفاعات العامة وأن يضبطوا سلوكهم). أما أرسطو فكالعادة يدعو هنا إلى «الاعتدال» في الضحك. «المتعة التي يحصل عليها المرء من النكتة لا تكون بعمق المتعة التي يحصل عليها نتيجة البهجة الناتجة عن الجمال أو الخير الأخلاقي». هكذا يكتب كانط فهو يرى أيضاً أن التسلية تلك ناتجة عن «اللعب العقلي بالأفكار». (لقد أطلق «بيرجر» على نظرية كانط الخاصة بالضحك اسم نظرية «اللاشيء» حيث يحل «اللاشيء» في هذه النظرية محلّ ذلك الشيء الذي كان متوقعاً ومن إدراكنا التناقض المفاجئ يحدث الضحك) (شاكر عبد الحميد). شبنهور رأى أن الضحك «ينشأ نتيجة افتقار للتجانس أو حدوث التناقض بين الموجة العقلية المجردة وبين تمثل أو تمثيل معرفي، معين يقوم على أساس الإدراك، أي أن الضحك ببساطة هو محصّلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي الذي لا يمكن اجتنابه بين المتصوّر العقلي Concieved العام والمدرك الحسي Perceived الخاص». «إن سبب الضحك هو ببساطة ذلك الإدراك المفاجئ للتناقض بين تصورٍ معين، وبين الموضوعات الواقعية المحددة التي تم الاعتقاد من قبل بوجود علاقة معينة بينها وبين هذا التصور، لكنها الآن علاقة أخرى غير متوقعة، والضحك نفسه هو مجرد التعبير عن هذا التناقض». رأى كيركجارد أن التهكّم عامةً «يحرر من أعباء الواقع المعاش والواقع الامبريقي العملي، ولكن هذه الحرية تظل حرية من النوع السلبي نسبياً، لكن التهكّم له جانبه الإيجابي أيضاً الذي يقوم على أساس الاستمتاع الذي يتمثل في أن التهكم يوفر لصاحبه شكلاً من أشكال الاكتفاء بالذات أو نوعاً من الغلوّ بالثقة في النفس»، وربما وُجدت الجدية الصارمة حيث يوجد التهكّم العميق حينما رأى شليجل أن «الفلسفة هي الموطن الحقيقي للتهكّم»، وربما كان أكثر الناس تهكّماً أكثرهم إدراكاً لأبعاد الواقع، والسخرية بالفكرة تأخذ أحياناً أشنع أبعاد النقد، لذا تدخل السخرية كآلية في التفكير، وعليه فمن السهل على المرء أن يكون جاداً في تفكيره، لكن من الصعب أن يستخدم وسائله الجادة في السخرية من فكرةٍ معارضة، لذا تصبح السخرية وسيلة حادّة ونافذة ومدمّرة حينما تستخدم في النقد لأنها تنطلق من قواعد جادّة لتهدم الأفكار المتهافتة الرّخوة. كل تلك العبارات ترادفت أو انزلقت أو دخلت أثناء الدخول إلى تخّوم معنى النكتة، أو البحث في سبب إنتاجها، أو سبب الإضحاك، وهي مواضيع متعددة، تقود إلى جوانب خلافية لا يمكن استدرارها كلها في خلاصة صحفية كهذه، لكن الإيضاح يأتي لإثبات كون النكتة، أو السخرية، أو التهكم، لا تأتي خارج اهتمام العلم، أو الفلسفة، وإنما هي من صميم البحوث الاجتماعية والفلسفية، حتى وإن كانت تلك المنتجات الشعبية هي (ملفوظات اجتماعية غير واعية) فإنها تعني وتدلّ على أبعاد متنوعة وعميقة، تخدم الباحث والمتابع، حيث يمكن رصد أي ظاهرة عبر هذا الشقّ الاجتماعي المهمل والمنسي، لتعرف أن كل تلك الجوانب الساخرة هي تعبيرات عن أفكار، أو حالات، أو أمراض، أو تحوّلات