تبدأ الصيام، تتساءل ما إذا كانت الكورونا ستحترم ذاك؟ تمضي السكين بسلاسة تُشَرِّح صفرة الفلفل الرومي العملاق، وتنساب تتلافى تفتق بذر الطماطم الفاقع الحمرة، أرمق شقيقتي تعد إفطار الحادية عشرة ويدهمني الحب، حب لهؤلاء الذين يحيطوننا كالهواء، ولا نعي الاختناق الذي سنعانيه لو ذهبوا، ولن ينقذنا منه حجرة العناية المركزة وأنابيب التنفس بأرقى المستشفيات. تتأملها تضيف ذرات الزعتر وشرائح اليوسفي الذي لا يزيد في حجمه عن عقلة أصبع، في مطبخنا الذي لم تُوقد فيه نار من قبل تندلع كل مساء سيمفونية نمنمات العادي واليومي كالخضار، في الحجر الصحي تصبح اللقمة بعملقة الكتب من روائع الفلسفة والأدب والفن، يزاحمني المطبخ كتاب الطاعون لألبير كامو الذي تفجر الاهتمام به فجأة في الأسبوع الأول من الحجر، وانطبعت منه ملايين النسخ فجأة تتخاطفها الأيدي في دولة كاليابان، عجيبة رغبة البشر في النجاة من كارثة معاصرة بالغوص في كارثة تاريخية، نفرُّ من الكورونا في الطاعون. «أفكر بالموت». تباغتني شادية، أسارع لمقاطعتها وتستمهلني، «اسمعي، أعرف أنك دومًا تفكرين بأنك من سيبدأ بالموت وأنك لا تحفلين بأين ينتهي جثمانك وأي أرض ستواريه؛ لأنك دومًا تكررين لا يهم الجسد حين تطلع الروح فمأواها الله، هناك دومًا يد الله. لكن لنقلب الوضع، لنتخيل سيناريو آخر، تخيلي أنني أنا التي مرضت ونقلت للمستشفى ومت، ألن تشعري بأنك تورطت؟». «لا..» سارعت لنفض تلك الصورة المروعة، «لا، إن متِ أنتهي». «ولا ترينني؟ ولا يكون لك أمر ولا تحكم بجسدي؟» «ولماذا أراك؟ أتظنين أن المسافات وجدران العزل بالمستشفيات قادرة على الوقوف بيننا؟ أتظنين أنهم حين يحجرون عليك سيحولون بيني وبين رؤيتك، إنهما روحانا متصلتان تتناظران وتتعانقان عبر الحواجز والمسافات، أتظنين وجودنا معًا عبثًا؟، روحان شاءت الإرادة أن تجمعهما في جسدين لشقيقتين. هو قرب لا يقطعه بُعد، إن مت أو حييت الصلة قائمة لا يهم معها الجسد. ما الجسد بعد طلوع الروح؟ لا شيء، لا يهم، سأكون معك أينما كنت في الكورونا أو السلامة، في الموت أو الحياة». بصمت مضينا نقضم شرائح الخيار الريانة، نواجه الطريق الساكت عبر نافذة صالوننا المفتوح على الطريق، بيننا نبتة النخل نصفها صفرة من حر المدفأة، بنعومة لكن بعنفوان ومن بين الصفرة تشق براعم خضرة طرية، في منمنمة النخلة هذه تلخيص الوجود. نفكر بالموت وبالروح وبتفاهة الجسد، لكن وقبل وبعد لا بد أن نعترف بأن الجسد جميل، الجسد هذا الطيب هذا الخير المطواع وسيلتنا لعيش الملموس، للمعاناة والألم والفرح والنشوة، هذا الذي يحتمل نزواتنا وإفراطنا وشح العناية وكل كل لحظات التصعيد والتقهقهر، أتأمل في جسد شادية وأهمسأحبك، وبرحمة الله لن تموت في حقيبة بلاستيكية وتحمل بملقاط برافعة وتدفن في غربة.» أعزم قلبي على الصلاة والدعاء بالحصانة وأبتهل أن يستجيب. تراجعني مقولة المعلمين الروحانيين التابعين ل «الفيدنتا»: «أنت لا تحيا الحياة، بل أنت الحياة».