ظلّت البشرية منذ عهود قدماء الأطباء تخشى الأمراض الغامضة التي تعطل حياتها، أو تكون عصيّة على التحرّز منها، ولا يزال الإنسان حتى هذه اللحظة يتوجس منها ويتعوذ من عقابيلها. وكان بعض الأطباء القدماء يسمّون الأمراض الخفيّة التي يعجز إدراكهم عن الإحاطة بماهيّتها «المرض الإلهي»، وأما جالينوس وغيره فتأولوا هذه التسمية للقدماء وبحثوا لهم عن عذر فيها، وقالوا: إنما سموها: المرض الإلهي؛ لأنها تضر بالجزء الإلهي الذي مسكنه الدماغ! أما في وقتنا الحالي فقد أصبحنا نسأل عند حلول الوباء عن أخلاق الأمم، وسلوك المجتمعات؛ لأن سؤال الأخلاق المجتمعية، وأخلاق الدولة – إن صح التعبير – هو الأشد إقلاقًا الآن. نعلم جميعًا أن العالم كله يبحث عن وسائل لاكتشاف لقاح لهذا المرض، وكلنا نعلم أسباب انتشاره وسبُل الوقاية منها، إلا أن ما يبدو أنه نذير يستدعي الإصغاء هو: أن مستوى أخلاق بعض الدول وبعض المجتمعات في التعامل مع هذا المرض لم يكن منسجمًا مع وصلت إليه من التقدم الصناعي والتقني. وقد تعثرت دول عدة ومجتمعاتُها في سؤال الأخلاق في أزمنة الوباء، ولم نرَ في العالم الصناعي الغربيّ ما يستحق الإشادة إلا ما ندَر، على حين ارتفع سقف أخلاق الدولة وأخلاق المجتمع في المملكة العربية السعودية، وأصبحنا نبراسًا للتعامل مع هذه الأزمة، وقدوة يحتذي بها العالم أجمع، وأثبتت الوقائع بُعد نظر خادم الحرمين الملك سلمان، ونفوذ بصيرته، وعبقريّة وليّ عهده في التعامل الفوري مع الأحداث وفي فنّ إدارة الأزمة، بل إدارة مجموعة أزمات بالتزامن، على نحوٍ لم يُعرف إلا في أزمنة الخلافة الراشدة، عندما تعاملت الدولة في عهد عمر رضي الله عنه بإنسانية وحزم: مع الطاعون، ومع عام الرمادة، ومع الإيوان الكسروي الفارسي المتربص بالعرب والمسلمين على حدودهم الشمالية الشرقية. لقد جسّدت حكمة خادم الحرمين وذكاء وليّ عهده الوقّاد ودأبه المستمر سرّ التعامل مع هذه الأزمة الذي يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات، هي: الإنسانية الحازمة الدائبة. أما المبادئ الوقائية والاحتياطية – سواء أكانت اقتصادية أم صحيّة–، فهي أمور مسلّم بأنها ملحّة وضروريّة، وله خطوط عريضة معروفة منذ عقود عديدة، وقد كان الكتّاب منذ القرن التاسع عشر يكتبون في الصحف وفي المجلات الدورية والعلمية عنها. وقد كتب عبدالعزيز عبدالكريم في مجلة الرسالة، قبل نحو من تسعين عامًا مقالة بعنوان: الأزمة كما يراها الاقتصاديون، أحال فيها على تعامل يوسف عليه السلام مع أزمة الجدب في مصر، وفصّل الحديث عن أثر تطوّر وسائل المعيشة وأحوالها، وتبدل سبل العيش، وارتقاء الزراعة والصناعة والتجارة، وما ظهر مع ذلك من مشكلات ومعضلات خطيرة. وذكر عبدالكريم أن خطر هذه الأزمات يأتي من أنها تُحدث اضطرابات فجائية في التوازن الاقتصادي، وأنها تصيب الاقتصاد بأعراض وعلامات تشابه علامات الأمراض التي تصيب الإنسان وأعراضها، ونبّه على أن الأوبئة تنتقل آثارها في أنحاء العالم. ومنذ وقت طويل، وبعد طول بحث، عرف الاقتصاديون أن ظواهر الأزمات وأعراضها تتشابه في الأزمات كلها تقريبًا، ونصفها يمثل حالة صعود، والنصف الآخر يمثل حالة هبوط، ويظهر ذلك في تقلبات الأسعار والأجور والفوائد. وفي بداية الأمر يزيد الإنتاج في إحدى الصناعات أو ينقص، وينتقل هذا الاضطراب من صناعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، ويحدث ارتفاع في الأسعار يدل على نشاط الاستهلاك، ثم ارتفاع في قيمة الضمانات القابلة للتحويل، وارتفاع في الإقراض، ثم ارتفاع في الأجور وزيادة الطلب على العمال. ثم تنقلب الحال وتتدهور الأسعار؛ لندرة الأموال وصعوبة الإقراض، وتتدهور قيمة الضمانات، وتتدهور الأجور، ويُشلّ الإنتاج، ويتوقف طلب العمال. وهذا الأمر ظهر وانجلى عنه الغبار منذ بدايات القرن التاسع عشر، وما عاد فيه جديدٌ من حيث المبدأ، وإنما الجديد فيه من حيثُ تضاعف المخاطر، ومن حيث التعقيد في التفاصيل وطرائق التوقي والحلول ووسائلها. إن الجديد في هذه الأزمات الآن هو أن بوصلة القيم والأخلاق في العالم، وأعني هنا أخلاق الدولة وأخلاق المجتمع تحديدًا، هذه البوصلة تحتاج إلى ضبط جديد، وأزعم أن هذا الضبط يجب أن يكون على إيقاع المملكة العربية السعودية وقيادتها الإنسانية الحازمة الدائبة. من رسائل الفقهاء في القرن الحادي عشر الهجري افتتاحية العدد تضمنت فهرس المقالات مقالة عبدالعزيز عبدالكريم مجلة الرسالة في مجلدات