لقد وقف الأدب معاوناً للإنسان، ومناصراً له، ضد الأوبئة التي تتخطّفه في شتى أنواعها، وألوانها، وفي مختلف أزمانها، وعصورها، بل تسلّح الأطباء أنفسهم بالأدب، وأشكاله لمواجهة تلك الأوبئة، على نحو ما فعل الطبيب البريطاني (جون سنو 1813 - 1858) أحد مؤسسي علم الأوبئة الحديثة الذي روى كثيراً من قصصه، وأحداثه في تعامله مع وباء (الكوليرا) وكيف توصل إلى بعض النتائج والتغييرات المهمة التي أدت إلى تحسن في نظام الصحة العالمية، وهذا على سبيل علاقة الأدب بالمرض سريرياً أو (إكلينيكياً). ونظر الأدب إلى الوباء من زاويته الفنية والجمالية؛ إذ تعامل روائيو العصر الذهبي للرواية في أوروبا مع الأوبئة بوصفها قصة، أو أداة روائية، وليس مرضاً فحسب، وقد لمسنا ذلك بوضوح عند الروائي الألماني الفائز بجائزة نوبل في الأدب العام 1929م (توماس مان 1875 - 1955) إذ اشتمل الفصل الأخير من روايته (الموت في البندقية) على تشخيص الوباء، وسرد أحداثه، وكيفية وصوله إلى تلك المنطقة. وبصرف النظر عن أبعاد الرواية أيديولوجياً، فقد استطاع الكاتب أن يجعل من الموت ثيمة مقابلة للجمال، وأخذ يعرض للبهاء في مقابل الوباء، وكان فنّاناً مبدعاً في رسمه لتنقل المرض، على شاكلة قوله: «وبينما كانت أوروبا ترتجف خوفاً من أن يصل شبح الوباء إليها، حدث أن حمله تجار سوريون عن طريق البحر...» ثم يشرع في الحديث عن الوباء في تفاصيل روايته قائلاً: «فرفع رأسه في طولون ومالاقا، وأظهر قناعه في باليرمو ونابولي عدة مرات، وبدا أنه استقر في منطقتي كالابرين، وأبولين، أما شمال شبه الجزيرة فقد ظل مصوناً...». ولو رمنا عد الأعمال الأدبية التي وقفت في مواجهة الأوبئة لألفيناها كثيرة، ويمكننا هنا أن نختم بالإشارة إلى أقدمها، وأميزها من وجهة نظرنا، وهي قصة (ديكاميرون) للإيطالي (جيوفاني بوكاتشيو 1313 - 1375) التي تروي أحداث هروب مجموعة من الشبان عن الطاعون الأسود الذي اجتاح بلادهم في ذلك الزمن، وصاروا يقضّون أمسيات الانعزال بالحكايات التي تدعو إلى التسلية بعيداً عن الوباء. ولم يكن الأدب العربي قديمه وحديثه متفرجاً على الأزمات، بل وقف منها موقف المدافع الذي اصطلى بنارها، وذاق ألمها، وأحس بقسوتها ومرارتها. ونجد عند أبي ذؤيب الهذلي مثالاً؛ حيث فقد بنيه بعد أن نالهم الوباء، فكتب أبياتاً حزينة تعد من أعظم المراثي في الشعر العربي، وأكّدت قصيدته كيف كان الأدب يصور المأساة، ويرسم أشكال العلاج، وطرق التعامل، وردود الأفعال. كذلك ربما كان الشاعر نفسه عرضة للإصابة بالوباء، وعندئذ يقف منه موقفاً مختلفاً، كما فعل الشاعر ابن الوردي (749ه) الذي توفي بالطاعون، وكان قد تحدث عنه شعراً ونثراً.