خاض البشر معارك طويلة عبر التاريخ مع أوبئة كثيرة قاتلة، استطاع أن يهزم بعضها مثل شلل الأطفال الذي تم القضاء عليه بنسبة 98 %، في حين ما زال يصارع أمراضاً عصرية أخرى، حيث تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية أن مرض نقص المناعة المكتسب أدى إلى وفاة 32 مليون شخص، توفي 770 ألفاً منهم في عام 2018 فقط. الإنفلونزا الأسبانية التي أصابت العالم عام 1950م حصدت 50 مليون شخص حول العالم، وعاش العالم كذلك ويلات فايروس سارس عام 2003 ووباء إيبولا عام 2009، وتشير الإحصائيات حتى تاريخ كتابة هذا المقال 2020/3/29م إلى إصابة أكثر من نصف مليون شخص حول العالم بفايروس كورونا المستجد، توفي ثلاثون ألفاً منهم ومازال الرقم في ازدياد. وفي حين شكل هذا الفيروس تهديداً خطيراً للصحة العامة على مستوى العالم، وأنتج آثارًا على مستويات عدة سيظل العالم يعمل على معالجتها والتقليل منها مدة زمنية طويلة، إلا أن له تأثيراً مباشراً قوياً على التجارة والأعمال، فقد عزل العالم عن بعضه، وأثر تأثيراً ضخماً على حركة النقل التجاري بخلاف النقل المدني. ومن الآثار الجانبية التي أثارها فايروس كورونا المستجد ما ينشأ حالياً من جدل وحوار قانوني اقتصادي حول الالتزامات التعاقدية التي أصبحت في مهب الريح بسبب ما يعرف بالقوة القاهرة التي جاء بها كورونا، وسيتصاعد هذا الجدل لارتباط ذلك بالأمن الصحي العالمي، والإكراه الحاصل بسبب القوة القاهرة التي حالت وستحول من دون إنفاذ كثير من الالتزامات التعاقدية. تسعى حالياً كبريات الشركات التجارية العالمية الصينية منها والأميركية للتحلل من التزاماتها التعاقدية بعد أن تكبدت خسائر كبيرة بسبب عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وذلك بسبب اختلاف طبيعة وظروف إنشاء تلك العقود والتعاهدات، وما يتبعها من التزامات كالتأمين والنقل والضرائب والتي تغيرت بالكلية، وهذا يعني في مجمله عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات الخارجة عن إرادة المتعاقدين وهو ما سيؤثر على الاستقرار الاقتصادي والتبادل التجاري العالمي. يعرف القانون القوة القاهرة بأنها كل أمر لا يستطيع الإنسان توقعه كالظواهر الطبيعية، مثل الفيضانات والزلازل والحرائق والأوبئة التي تجتاح العالم، ومنها وباء كورونا الحالي، وشروط تطبيق قاعدة الظروف القاهرة هي عدم القدرة على توقع حدوثها واستحالة دفعها، وعدم وجود خطأ في الطرف المطالب بتطبيق قاعدة الظروف القاهرة، وينص على القوة القاهرة في القانون الاقتصادي كإحدى بنود التعاقد والتي تعفي كلا الطرفين المتعاقدين من التزاماتهما عند حدوث ظروف قاهرة خارجة عن إرادتيهما. ومن المتوقع أن تزداد الدعاوى القضائية التي ستقام على أساس عدم القدرة على الوفاء بالعقود بسبب الظروف القاهرة ازدياداً كبيراً في الأيام والأشهر المقبلة، وهو ما أدركه النظام التجاري العالمي الذي يتسم بسرعة معالجة الظروف المستجدة، حيث ظهرت فكرة إصدار شهادة دولية تسمى (شهادة القوة القاهرة) للدفع بها أمام المنعطفات القضائية في المحاكم التجارية على مستوى العالم. إن القاعدة القانونية التعاقديّة التي تنص على (أن العقد شريعة المتعاقدين) والتي بنيت على أساس قوامه مبدأ سلطة الإرادة والالتزام بوجوب احترام العقود والمواثيق، ومبدأه الاقتصادي بوجوب استقرار المعاملات، ستكون غير قابلة للتطبيق في هذه الظروف، بسبب استحالة تنفيذ أصل الالتزام أو بعضه أو تأخيره أو تأجيله، كون الالتزام التعاقدي أصبح مستحيلاً التنفيذ أو صعب التنفيذ وكلتا النظريتين (القوة القاهرة) أو (الظروف الطارئة) تسعى لعدم التكليف بما يتجاوز الطاقة العادية في الظروف الطبيعية. وفي الجانب التعاقدي الشخصي الذي يخص عقود العمل على سبيل المثال نرى أن من الأسباب العامة لإنهاء العقود القوة القاهرة طبقًا للنظرية العامة للعقود، وهذه الاستحالة تؤدي لانقضاء عقد العمل وفقا للمادة (74/5) من نظام العمل السعودي ومن المتوقع النظر بكثافة في عدة قضايا في المحاكم العمالية تتطرق لهذا الجانب. ومن المهم جداً في هذا الجانب التزام التجار والصناعيين وأصحاب المهن بالنصوص النظامية الصادرة مؤخراً في هذه الظروف الاستثنائية، منها على سبيل المثال القرار الملكي بتعليق الدوام في الدوائر الحكومية، وبعض الأنشطة التجارية، وقرار الحظر والعزل الصحي، وما سبقها وما يعقبها من القرارات والتي ستكون مستمسكاً قانونياً يعتمد الرجوع إلى صيغته ونصه وفحواه عند إجراءات التقاضي، فرغم أن هذه الجائحة العالمية قد تكون مدخلاً للعديد من مستغلي الثغرات النظامية للتخلص من التزاماتهم، إلا أنه وعلى مستوى المملكة العربية السعودية، فقد كفلت الإجراءات الحكومية ضوابط التعامل التعاقدي خلال هذه الأزمة بما يضمن حقوق جميع الأطراف لحين عودة الحياة التجارية والأعمال لأوضاعها الآمنة. *عضو هيئة المحامين السعوديين رئيس لجنة المحامين بالباحة