قد يعتزل الرجل الفاضل الجماعات هرباً من الخوض في فتنة، أو تلافياً لأذاهم، أو ابتعاداً عن ضررهم، أو الإضرار بهم. ويذكر أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين» من آداب العزلة: أن ينوي المعتزل بعزلته كفّ شرّه عن الناس أولاً، ثم طلب السلامة ثانياً، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثاً، ويمنع الناس عن أن يكثروا المجيء إليه فيشوشوا عليه أكثر وقته. ويحث الغزالي الشخص الذي انقطع عن الناس على أن يقطع الوساوس، ويكفّ عن إكثار السؤال عن الناس، ويتجنب الإصغاء إلى الأراجيف، لأن ذلك ينغرس في القلب وينبعث في الفكر من حيث لا يحتسب، ولأن هذه الشائعات تقع في السمع كوقوع البذر في الأرض، والبذر ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه، ويتداعى بعضها إلى بعض. وكان داود بن نصير الطائي الكوفي أحد الأعلام، وصاحب رأي، ولكنه آثر الابتعاد عن الأضواء، ولم يكن يتصدى للفتوى. ويقال: إن منطلق هذا الأمر أن داود كان في مجلس أبي حنيفة ذا صوت وعلم وفقه وكلام، وأخذ ذات مرّة حصاةً فحذف بها إنساناً، فقال له أبو حنيفة: «يا أبا سليمان، طال لسانك، وطالت يدك»، فظلّ بعد ذلك سنة لا يجيب عن سؤال، يؤدب نفسه ويداويها بالصمت، ثمّ جّرب نفسه هل تقوى على العزلة؟ فقعد في مجلس أبي حنيفة سنة لم ينطق، ثم اعتزل الناس. وقد ألّف أبو سليمان الخطابي الشافعي كتاباً حمل عنوان «العزلة»، وأصدرته دار ابن كثير بتحقيق ياسين محمد السوّاس وتعليقه، وكان باعث الخطابي على تأليفه هو ميله إلى العزلة والتفرّد، وقد جعله تعبيراً ذاتياً عما يدور في صدره ويؤمن به. ويقوم كتاب «العزلة» على الدعوة إلى العزلة والإقلال من الصحاب ومخالطة الناس، والميل إلى التفرّد، وعبّر المؤلف عن ذلك بأسلوب منطقي يعتمد البراهين والحجج وضرب الأمثلة، والمجيء بالشواهد والقصص، مع تقسيم الموضوع إلى أبواب محددة، تصبّ جميعها في موضوع العزلة. ويجيب الخطّابي عن بعض الشبهات التي يثيرها خصوم العزلة، من زعمهم أنها تفرّق الناس، وتقطع المودّة والتعاون. وكان من جوابه: أن الفرقة فرقتان، إحداهما فرقة في القلوب والتفرق في الولاء والانتماء، وهذا النوع من الفرقة هو المذموم. وأما فرقة الأبدان ومفارقة العوام فهي تابعة للحاجة وجارية مع المصلحة. والفائدة من اجتماع الناس في البلدان وتجاورهم في الأمصار هي أن يتضافروا ويتعاونوا على المصالح إذا كانت مصالحهم لا تكمل إلا بذلك. وأما إذا كانت المصلحة والأمان في الابتعاد عن الاختلاط بالناس فإن السلامة في مجانبتهم والراحة في التباعد منهم. ويسوق المؤلف أمثلة من اعتزال الأنبياء والصالحين فمَن دونهم، فإبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء اعتصم بالعزلة، واستظهر بها على قومه عند جفائهم إياه وخلافهم له في عبادة الأصنام ومعاندة الحق، وقال الله تعالى عنه: «فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاًّ جعلنا نبياً»؛ فقد كافأ الله سبحانه وتعالى نبيّه إبراهيم بأن وهب له إسحاق ويعقوب، لما اعتزل المشركين واجتنب أذاهم. وكذلك: اعتزل أهل الكهف قومهم، وقال الله تعالى فيهم: «وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً». فكان اعتزالهم المقام بين ظهراني قومهم سبباً لنشر الرحمة عليهم، وصرف الله عنهم بذلك شرّهم، ودفع عنهم بأسهم، ورفع في الصالحين ذكرهم. ويواصل الخطابي: لقد اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه قريشاً، فدخل الشعب، وأمر أصحابه باعتزالهم... فالعزلة عند الفتنة سنة الأنبياء، وعصمة الأولياء، وسيرة الحكماء الألبّاء، ولا أعلم لمن عابها عذراً. ويأتي بأمثلة على الأحوال التي تستدعي العزلة، فيذكر منها: أن يأتي زمان يكون فيه هلاك الرجل على يدي أبويه، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده، فإن لم يكن له زوجة فعلى يدي قرابته، أو حين لا يأمن الرجل جليسه، وعندئذ يجب على الناس أن يكونوا «أحلاس بيوتهم» أي: ملازمين لها كالفِراش.