تراجع علماء ومفكري السياسة ليس لتقصير أو تخاذل؛ وإنما لأن السوسيوسياسي لم يعد يؤمن بهم ولم يعد يصدق إلا نفسه لانبهاره بمعلومات ملقاة على عتبات المعلومات الرقمية غير المؤكدة صحة أو مصدراً، وإنما تملأ الرؤوس بثقل تواردها وتقاطرها في فضاء غير معلوم الطرف.. إن كل زمن له مخرجاته، ولكل مناسبة موال كما يقال، فهل يطفو على السطح وفي هذه الآونة مصطلح يعكس حالها بما لها وما عليها، في زمن التغيير والذهنية المعاكسة؟! عالم المصطلحات عالم واسع ومزدحم بالقضايا فلكل مصطلح قضية، ومما لا شك فيه هو أن ميلاد المصطلح يجسّد ساعته وحينه وتاريخه. على سبيل المثال عندما أخذت الأفكار الاشتراكية تطفو على سطح الفكر العالمي بمفكريها ومنظريها أمثال لويسيان جولدمان وأستاذه لوكاش وهيجل وسوسير وغيرهم ممن نحتوا لنا مصطلحات تؤطر رؤاهم ونظرياتهم التي غيرت من وجهة الإبداع العالمي حتى يومنا هذا، وفي الوقت ذاته هي نتاج نتح اجتماعي، وبطبيعة الحال إن كل واحد منهم قد صاغ نظريته استناداً إلى نسق فلسفي يُقيم علائق بين الشّكل الفنّي وانفتاح الرُوح على المطلق، ويَنْشد تحقيق طمأنينة لهذه الروح متطلعة إلى الفكاك في فضاءات رحبة كانت هي مرتعها قبل وجودها على هذه الأرض، وكانت النظرية الأم الكبرى لكل هذه التحولات والتغيرات الفكرية الفلسفية هي نظرية الذات والموضوع، وهو بحث الدائم والدائب عن موضوعها لتعود ولتلتصق به إمعاناً في العودة للجنة المفقودة. فكانت نظرية المحاكاة هي الأب الشرعي لما يسمى بفلسفة الذات والموضوع.. لكن جورج لوكاش (1885-1971) ولويسيان جولدمان هما من وضع الدعائم الأساسية لربط العمل الإبداعي بالسياسة وبالمجتمع على غرار كتاب (نظرية الرواية) وكتاب (التاريخ والوعي الطبقي)، هذا الربط الذي يعتمد على مجموعة من الفرضيات، فيقول لوسيان غولدمان في مقدمة نظرية الرواية: «تقوم هذه الفرضيات على إقامة علاقات بين العمل الإبداعي -على وجه الخصوص- والبنية الاقتصادية في المجتمع». بهذه العلاقة الديناميكية بين الإبداع وتقلبات المجتمع وأحواله، أسس هؤلاء لعلم السوسيولوجيا كانعكاس إبداعي على المجتمعات. هذا التزاوج بين العلوم والآداب هو ما أنتج لنا هذه المصطلحات التي لا تغيب عن أذهان الطلاب والأكاديميين وطلاب المعرفة في التحليل والتفسير عبر هذه النظريات. ولكن ما دعانا لكتابة هذا المقال هو ذلك الجمع، وتلك الملاحظة، وهذا التأمل، في ظهور طبقة جديدة ذات أفكار مؤدلجة مع ظهور طوفان التغيير واندلاع الثورات العربية نستطيع أن نطلق عليها (السوسيوسياسيين). هذه الفئات التي تسيدت المنابر والقنوات واحتلت نواصي الحارات وساحات المقاهي وكل شبر في كل حارة أو زقاق يتصدرها (سيسيوسياسي) يطرح أفكاراً ويحلل ويفسر وينشر أخباراً في نوع من المصادرة التامة على كل ذي فكر غيره. أي أن لديه كل القناعات بأن ما يقوله هو المعرفة والحقيقة والبيان فانتفت العلاقة هنا بين الأدب والإبداع والمجتمع وسادت أفكار غير مهضومة على الساحة السياسية مع تراجع علماء ومفكري السياسة ليس لتقصير أو تخاذل وإنما لأن السوسيوسياسي لم يعد يؤمن بهم، ولم يعد يصدق إلا نفسه لانبهاره بمعلومات ملقاة على عتبات المعلومات الرقمية غير المؤكدة صحة أو مصدرًا، وإنما تملأ الرؤوس بثقل تواردها وتقاطرها في فضاء غير معلوم الطرف! فتتحدب المرايا في رؤية العالم فلم تعد هي ذات التفسير الجولدماني بأن «رؤية العالم: وهي تدل على الاستكمال المفهومي الذي يحصل على انسجام النزَاعات الواقعية/العاطفية/ الثقافية لأعضاء طبقة اجتماعية». فالطبقة الاجتماعية هي التي تشكل هذا النسق الفكري موضوعياً! لدينا الآن نوع من التفكير ونوع من العمليات العقلية والذهنية تختزن حفنة أخبار مع شذرات من السياسة، ثم تغزل على نول الفقيه السياسي وبدون أي مساحة للنقاش، أو تبادل الآراء متمرداً على الوضع القائم والمتاح نحو الوضع الممكن ومن دون أدوات أو آليات.. والنتاج هذه الحرائق. لقد ساعد على ظهور هذه الطبقة: 1- اتساع قنوات التواصل الاجتماعي، 2- غزارة البث الإلكتروني والتلفزيوني أحادية الرؤى لدى ملاك نواصي الإعلام اتساع العدسة المستفيضة نحو العالم. ولم تكن هذه الفئات ذات طابع اجتماعي أو سياسي أو أدبي بعينه بقدر ما تشكلت في دائرة الظهور لملء مساحات فارغة نتاج اتساع الفضاء الإعلامي، هذا أولاً، وثانياً رغبة في امتصاص الذوات المشتعلة بما يسمى في علم النفس (علم الإفضاء أو التنفيس) لتفريغ البالون من محتواه. لكن الأخطر من ذلك أنها تفشت بيننا هذه التراكبية الخطيرة ذات المصادرة والاكتفاء والإنكاء! ذوات طاردة ونافية للآخر وذوات الضيق للأفق والخمول لذهنية المتحركة بين الدوال والمدلولات للوصول إلى نتائج. إنه اتجاه يغفل جدلية العلاقة بين الأدب والسياق الاجتماعي والتاريخي، وتقلل من شأن فاعلية البيئة السوسيولوجية على الواقع السياسي ولابد من البحث في الجماعات الاجتماعية السائدة، وفي البنية الكلية للمجتمع لكي نفهم منشأ هذه النوعية من التفكير ومنشأها وبيئاتها المتقلبة والتي باتت تحرق العالم بقذائف المولوتوف وحجارة الأرصفة تلك هي ظاهرة (السوسيوسياسيين) الجدد. إن اجتماعية المنشأ هذه لا تعني الربط الآلي والتفسير السببي لعلاقة السياسة بالواقع الاجتماعي بقدر ما تعني الربط بين الواقع الاجتماعي والوجود بشكل عام حتى تحول الصراع الفكري من واقع سياسي إلى طابع وجودي بحت، وهذا أخطر ما في الأمر؛ وهذ ما أفرزته لنا الثورات العربية والعشرية الثانية من الألفية الثالثة والذي سيتشكل على صفحات الفكر والأدب والتاريخ في الأزمنة القادمة. لقد كان متوقعاً هذا الخلل الديناميكي في الذهنية الجمعية نتاج تلك الصدمة الثقافية (Cultural shock) جراء طوفان التكنولوجيا والتقنية المستفيضة التي لم يسبقها وعي أو علم يضمن لنا ذهنية ناقدة راكزة مفكرة ومحللة وقابلة للنقاش وللجدل للوصول إلى القناعات.