إن العولمة المالية والرقمية غيرت اليوم من عالمنا الواقعي برمته بحيث أصبح الجميع يسبح في فلك فضاء افتراضي متكامل الأبعاد والأهداف في أبسط جزئياته. فمما لا شك فيه تعد تلك الطفرة النوعية في عمقها ثورة حقيقية لتكنولوجيات الاتصال والمعلومات وتمثل حدث الساعة البارز بحيث ساهمت بدورها في رسم سمات الحداثة لهذه العشرية مما سمحت الرهان عليها أكثر فأكثر مستقبليا، فالعالم الافتراضي لم يقتصر فقط علي بروز التعليم الإلكتروني عن بعد والتجارة الإلكترونية والتسويق الإلكتروني وغيرها، بل ضرب مؤخرا في صميم المنظومة النقدية والمالية لتبرز بذلك عملات شبيهة بعالم الخيال تسمي بالعملات الرقمية الافتراضية Cryptocurrencies نذكر منها بالأساس عملة «البتكوين» وهي تعتبر الأهم نظرا للإقبال المكثف عليها بالأسواق المالية العالمية. إذ في هذا السياق يجب تحديد الثوابت والمتغيرات في تلك السياسة النقدية الخاصة بالبنوك المركزية بحيث لا تُبنى تلك العملات الرقمية الافتراضية علي الواقع الملموس بل هي مجرد «ثقة مزيفة»، كما يعتبر أخطرها أن تلك المنظومة الرقمية تحولت إلي الرهان علي «الوهم بالثراء» من خلال الشراء والبيع بحيث كثرت في صلبها عمليات الاحتيال والسرقة وغيرها من أساليب الخداع، لأن تلك العملات لا تمثل في حد ذاتها ثقلا نقديا مما تحولها برمتها إلي مجرد تداول افتراضي يمثل فقاعة عابرة لا أكثر ولا أقل. يعتبر البنك المركزي القلب النابض لجميع البنوك والشريان الحيوي الذي يضخ لهم السيولة المالية وينشط حركية الأموال بالأسواق. فكل دولة من دول العالم لها بنك مركزي ولو اختلفت التسميات من احتياطي مركزي أو خزينة مركزية، إلا أن الضوابط النقدية تعتبر نفسها وهي تختزل بالأساس في السياسة النقدية التي تحدد آليات العمل وتنظم المنظومة النقدية والمالية. فبالعودة إلي الاحتياطي النقدي لكل بنك مركزي الذي يقوم بربط معاملاته المالية والتجارية مع الفضاء الخارجي ويشكل له تغطية مركزية نجد سلة العملات الأجنبية بالتحديد منها «الدولار واليورو» كعملات أساسية في الأسواق المالية وأيضا الذهب والفضة. أما الأهم من كل ذلك فهي تتمثل في أساسيات عمل كل سياسة نقدية لكل بنك مركزي بحيث نجد منها من يراهن علي استقرار الأسعار ومعدل التضخم، ونجد البعض من يراهن علي الثقل النقدي والبعض الآخر علي «التحويلات المالية». إذ هنا يكمن مربط الفرس بحيث تتجلي الخطورة النقدية لأنه لا يوجد في تلك البنوك المركزية رهان حقيقي علي العملات الرقمية في المعاملات المالية الرسمية والتي تعتبر ضربا من الخيال في الأسواق المالية نظرا لارتهانها لعدم الواقعية في التداول والبناء علي مجرد وهم خيالي لا يمثل في حد ذاته واقعا ملموسا في المنظومة النقدية. فهنا بالنتيجة تغيب الشفافية والمصداقية غيابا كليا لتترك المجال بذلك إلي المستثمرين والمضاربين في تنفيذ عمليات الشراء والبيع لتلك العملات الرقمية الافتراضية في الأسواق المالية بدون ضوابط قانونية مركزية. إذ البعض يسأل، ما الفرق بينها وبين بقية الأموال؟ الإجابة بسيطة «فقيمة» تحويلات تلك العملات «غير محددة» علي القاعدة النقدية وعلي النقد المركزي وغير «مضبوطة» بالتحويلات مع الذهب والفضة أو الدولار واليورو بل هي مجرد «شراء وبيع وهم» غير واقعي بحيث لا يوجد لها قيمة في منظومة البنك المركزي. فعلي الرغم من طرح البنك المركزي الصيني مؤخرا لعملة رقمية افتراضية خاصة به، إلا أنها لا تعتبر عالمية في المعاملات المالية أو تمثل احتياطي نقدي رسمي ملموس علي أرض الواقع. فإجمالا تختلف الأمور جذريا فالنقود الواقعية تتوزع إلي قطع نقدية وورقية وأيضا إلي تحويلات في حسابات بنكية وصكوك وغيرها وإلي نقود إلكترونية مثل البطاقات الذكية وحسابات الباي بال ونتلار وسكيلار. بالنتيجة تمثل مجملها النقود الواقعية الملموسة بالبنك المركزي الذي يمثل بدوره بنك البنوك والذي يوفر السيولة اللازمة إلي الأسواق المالية لتنشط عمليات التداول عبر البيع والشراء لعملات العالم الواقعي في الأسواق المالية، لكن العملات الرقمية الافتراضية تعتبر دخيلة وليس لها ثقل نقدي في التحويلات بين الواقع والافتراضي. كما أن تلك العملات «غير مضبوطة ولا تحمل صبغة شرعية» بقواعد المنظومة النقدية بحيث تعتبر في مجملها سرابا نظرا لكثرتها، وتمثل حقيقة فقط للمستثمرين بها الذين خلقوا لأنفسهم أسواقا مالية افتراضية موازية ومستقلة عن العالم الواقعي. فقاعة عابرة شهدت الأسواق المالية خلال هذه العشرية جنونا حقيقيا من خلال الإقبال المكثف علي التداول بالعملات الرقمية الافتراضية وذلك بشكل غريب ورهيب خاصة بين سنة 2016 و2018 نظرا للأرباح الطائلة المسندة عبر نسبة الفوائد، لكن في المقابل لا يمثل الاستثمار في تلك العملات واقعا ملموسا بل تتم العملية كلها عبر الشراء عن بعد ك»رموز» لقطع نقدية افتراضية لا توجد بالاحتياطي المركزي وغير محددة سلفا بالسياسة النقدية وبالضوابط الشرعية والقانونية، مما تكثر بالنتيجة في صلبها عمليات النصب والاحتيال، فالرهان علي تلك العملات خاصة منها Bitcoin Onecoin, Litcoin يعتبر في جوهره شراء لوهم افتراضي بعيدا عن أرض الواقع ولو أنها تحقق في تلك الأرباح «المشكوك فيها» لأنها تضع تلك التنزيلات المالية في كومة من النقود ثم تبيع تلك العملات وبعد ذلك تتم عملية إعادة توزيعها علي أولئك المستثمرين بطريقة مشابهة كثيرا لشراء السندات أو أيضا لما يعرف ب»MLM» أو الشبكات الافتراضية في توزيع الأرباح بدون الالتزام بقواعد السياسة النقدية وواقعيتها التطبيقية بالبنوك المركزية. بالتالي يجعل من تلك الأسواق المالية التي تتداول بتلك العملات الرقمية مجرد فقاعة عابرة. بالتالي تحتاج تلك الأسواق المالية لإجراءات ملموسة من قبل البنوك المركزية قصد «إضفاء الشرعية والقانونية عليها وضبطها بقواعد مركزية» حتي تتم عملية إدخال نوع من الواقعية عليها، علي غرار الإجراءات الأخيرة المتخذة من قبل البنك المركزي الصيني الذي أصدر عملة رقمية خاصة به في معاملاته بالأسواق المالية.