أكمل ابني وحبيبي عامه التاسع عشر وهو في حالة عجز وألم؛ وذلك منذ أن رأت عيناه النور؛ تألم كثيرًا وما زال، وتألم معه قلبي وما زال، بل يتفطر قلبي ويتفتت كلما رأيت كرسيه المتحرك وجبائره وأجهزته وقساطره، كلما رأيت عجزه وانكسار قلبه، كلما تداعت عليه مضاعفات إعاقته - شلل نصفي؛ استسقاء دماغي؛ جنف؛ عدم تحكم بالمخارج؛ التهابات متكررة إن لم تكن مستمرة؛ عمليات جراحية عديدة؛ أدوية؛ مضادات - أتأمل هذا كله ثم يسكب الله في قلبي الرضا والأمل، فأحدث نفسي حديث اليقين: (أتظنين ربًا يمنح عبده الأجر لأجل شوكة تصيبه؛ لا يمنحك وابنك الأجور العظيمة عن هذا الألم الذي يزلزل النفوس والهم الذي يكتم الأنفاس فتضيق به الصدور؛ عن هذه الحياة المختلفة التي لا يعلم تفاصيلها إلا الله؛ عن هذه الصعاب التي تواجهانها، عن ذاك الترقب وتلك النبضات المتسارعة خوفًا مما سيقوله الأطباء.. من تلك الطعنة التي تنغرس في خاصرتك كلما استهان أحدهم بريحانة قلبك.. من تلك القبضة التي تعتصر قلبك كلما استهجن أحدهم حبك له أو استنكر عطاءك المتفرد له .. من تلك الدمعة الحرّى التي تنهمر بغير إذن حين ترين نظرة الحزن ترتسم على وجهه.. من ألمك وقلة حيلتك حين ترينه يتألم وأنتِ تتمتمين بالدعوات، حين يسقط قلبك إلى أخمص قدميك وتصرخين بقوة (محمد) حين يتشنج بين يديك، عن نومك المتقطع لأجله، عن ساعات الانتظار الصعبة في الطوارئ واضطرارك إلى النوم على الأرض العارية، عن تلك المواعيد المتتابعة في المستشفيات، عن ذاك الطبيب الأحمق الذي استهجن حضورك بابنك تدفعينه على كرسيه المتحرك في موعده بجملة تستجلب كل مشاعر القهر «إنت عاوزة مني إيه دلوقت»، «إنت جاية هنا ليه» عن تلك المكالمات والإيميلات والكتابات بحثًا عن علاج، عن إحساس الألم العميق كالنار المتأججة في الصدر لا يراها أحد ولا يشعر بها إلا من كانت بين أضلعه، عن تلك الحروب التي خضتها لأجل تعليمه وتأهيله. أبعد هذا كله تظنين أن الله يتخلى عنكما؟ ويحك يا نفس إن ظننت ذلك! ألم تري من لطف ربك بك ما أذهلك؟ ألم تستشعري معيته سبحانه؟ وتوفيقه ونصره لك؟ أبعد هذا تحزنين؟ أو تخافين أن يتخلى عنكما؟ أين أحاديث الصبر والإيمان بالقضاء والقدر التي تقنعين بها البطل محمد ليستبشر ويتفاءل؟ بعد مثل هذه التساؤلات ينجلي عني الهم والخوف، وأستشعر فضل الله الكريم أن مكنني من رعايته، فأعلم جيدًا أنني امرأة قوية كأي أم ترعى ابنًا من ذوي الإعاقة، امرأة لا ينتهي إصرارها على أن ينال ابنها حقه في العلاج والرعاية والتأهيل... ثم تمتلئ نفسي يقينًا بأننا في خير عظيم لا يدرك حجمه إلا من وفقه الله للصبر والرضا؛ إلا من أدرك أننا مجرد عابرين، وأن الحياة مجرد رحلة سريعة، فهنيئًا للصابرين والمحتسبين والمحسنين.