ملمح القط الجنوبي الذي لم يعد بخافٍ على أحد في بلادنا بل أصبح عالمياً في نشره وتداوله حتى وضعت لوحته الشهيرة لتزين مبنى الأممالمتحدة كأيقونة فطرية نادرة الوجود.. لم يكن الإبداع - بصفة عامة والفنون بصفة خاصة - سوى تعبير دقيق عن مكنون الشخصية، وهذه أهمية الفن في تاريخ الشعوب، ولا يقتصر التحليل للشخصية ذاتها فحسب، وإنما لتحليل الحقب التاريخية المتعاقبة بأبعادها الاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية بحسب التحليل العلمي لدراسة الحضارات. ومن اللافت للنظر هذا الوعي بالفن وانطلاقه في سماء المملكة بعد أن كان ينظر له البعض كشيء عديم القيمة. ولذلك نستطيع القول: إن هذه الفترة الحاسمة في المملكة العربية السعودية واهتمامها بالفنون ستكون خير شاهد على الإعلاء الحقيقي لقيمة الفنون والوعي بها، فبلادنا الحبيبة بقيادة واعية تعلم قيمة الفنون وأثرها في إرهاف الذائقة والوعي بها في تاريخ الأمم حضارة تتوارثها الأجيال. ومما يدعو للبهجة ذلك الفعل الذي قام به فنان الجنوب عبدالله حسن البارقي - نسبة إلى بلاد بارق التي تتربع على سفوح جبال عسير الأخاذة بارعة الجمال - وهذا ليس ببعيد عن أبناء الجنوب فهم مبدعون بالفطرة وللفن الفطري شأنه في عالم الجمال والفن. عبدالله البارقي استلهم فنون منبته وخطوطها وألوانها في جدارياته الرائعة في أرجاء مدينته بل يطالب باستجلاب أبناء جلدته لرواج هذا الفن وتنميته، ولذا جابت جدارياته أنحاء المدينة لتحولها لوحة جمالية تضع أمامنا شخصية هذه المنطقة، وخصائصها للدارسين والسائحين الذين يعرفون كنه ما يخبئه عالم الفن وخطوط فنانيه. عبدالله البارقي لم يذهب بعيداً عن طينته ووجدانه الثري بالتراث - خصوصاً في الجداريات تلك - والذي ظهر طواعية دونما التواء، بل انساب في خطوطه ليحمل هوية وشخصية المكان. ومن أشد الملامح في خطوط هذا الفنان هو ملمح القط الجنوبي الذي لم يعد بخافٍ على أحد في بلادنا بل أصبح عالمياً في نشره وتداوله حتى وضعت لوحته الشهيرة لتزين مبنى الأممالمتحدة كأيقونة فطرية نادرة الوجود. وبالرغم من أن البارقي لم يعمل على نقل القط نقلاً حرفياً، إلا أنه استلهمه بشكل أساسي، فالرائي لوحاته يدرك أنه من منطقة الجنوب، كما أن المتخصص يدرك على الفور أنه فن القط بتصرف وتطور، وهذا أمر يحسب له لإبراز أهمية المنطقة ونحت تراثها بشكل ملحوظ. إذ إن جميع اللوحات - أو قل ما شاهدناه منها - يعكس الشخصية الجنوبية من حيث الألوان الصريحة التي تعكس لنا خاصية المنطقة من سطوع الشمس ووضوح الشخصية الجنوبية وصراحتها، كما أن المنطقة تمتاز بتنوع الأزهار على مختلف ألوانها، وكذلك تنوع الأشجار في غابات كثة تصافح السحاب على سفوح جبال عسير، هذا الارتفاع الذي تمتاز به فوق سطح البحر له التأثير الواضح على مكنون الشخصية من حيث سرعة إيقاع الشخصية كإيقاع نفسي داخلي، وهو ما انعكس في خطوط هذا الفنان، حيث ظهر في خطوطه كثرة الخط المنكسر والانحناءات المتتالية، هذا الإيقاع السريع الذي تتسم به شخصية الجنوبي هو ما يميزها عن غيرها في بلاد المملكة كأبناء نجد على سبيل المثال، حيث عكست الأرض المنبسطة واتساع الأفق والصحارى الممتدة ذلك الإيقاع الهادئ والروية في اتخاذ القرار في بعض الأمور. وذلك جله يتجلى لنا في فن القط، وهو نقش فطري كانت تقوم به نساء متخصصات تسمى الكاتبات، وهو مكون من خطوط عريضة عرضها يتراوح بين 20 و30 سنتيمتراً تقريباً، تعلو بعضها مع ترك مساحة بيضاء بين كل خط والآخر يساوي نفس العرض الملون، وبأشكال هندسية تتوسط هذه الخطوط، ويختلف عدد الخطوط بين منازل الأغنياء والفقراء. وكانت قديماً تؤخذ مادته من الطبيعة، فالأسود ليس من الفحم المطحون كما يذكر البعض وإنما من كتلات الدخان المتجمع على إناء مقلوب على أعواد أُشعِلت ثم أُطفِئت نارها، ويبقى الدخان يتصاعد على الإناء المقلوب (أشبه بعملية التقطير) واللون الأسود عنصر أساسي في القط. أما اللون الأحمر فيؤخذ من طينة حمراء تسمى (المِشْقَة) وعادة ما تستخدم في الصباغة، أما الأخضر فيؤخذ من عصير البرسيم، والأزرق يؤخذ من مسحوق النيلة الأزرق ثم الصمع حتى يثبت. ومن اللافت للنظر أن فن القط قد تصدر المتاحف، إلا أن أحداً لم يذكر وظيفته - نظراً لعدم معايشتهم هذا الفن - فللفن وظيفة كما أسلفنا بجميع النواحي أو المداخل سالفة الذكر، لكن له وظيفة اجتماعية ذات بعد اقتصادي لم تذكر. فلا تقتصر وظيفة القط على تزيين المنازل والأواني كوظيفة جمالية، لكن هناك بعداً اجتماعياً واقتصادياً؛ حيث يصل نقش القط إلى منتصف الجدار في منازل الأغنياء كناية عن مكانتهم الاجتماعية، فإذا ما دخل غريب البيت عرف قدرة قاطني المنزل الاقتصادية، فيمكث ويأكل ويبيت ثم يواصل مسيره، وبالتالي فعليه أن يعرف قدرات هذا البيت ومكانته؛ لأن منازل غير الأغنياء يتواضع فيها هذا النقش، ولذلك كانت للقط لغة رمزية يتخذها أهل الجنوب في التفاهم المضمر بينهم كما في أشعارهم وقصائدهم. ومن هنا كان للوحات عبدالله البارقي وسم ولغة وانعكاس لمكنون الشخصية الجنوبية، نأمل دراستها وتحليلها بشكل أوسع وأكبر، كما نأمل تسليط الضوء على لوحات هذا المبدع الفطري الرائع.