في منتصف القرن التاسع عشر انتشرت في أوروبا ظاهرة وفاة الأطفال والنساء الوالدات بعد الولادة بفترة قصيرة والتي أسموها وقتها "حمى النفاس". وعجز الأطباء والعلماء عن معرفة سبب الوفاة وإيجاد دواء لهذه الحمى. وقتها لاحظ الطبيب المجري (اجناتس سيملفيس) أن معدل الوفاة في عيادات الأطباء كان أعلى خمس كرات مقارنة بعيادات القابلات. وكان من الطبيعي في ذلك الزمن أن ينتقل الطبيب من عملية لأخرى مباشرة بنفس ملابسه وأدواته. افترض الطبيب اجناتس أن سبب الوفاة قد يكمن في قيام الأطباء بنقل مسببات المرض إلى النساء والأطفال. وعليه اقترح أن يقوم الأطباء بغسل أيديهم وتطهيرها بما عرف لاحقاً بعملية التعقيم للعمل على الحد من هذه الظاهرة القاتلة. ولكن كيف كانت ردة فعل الأطباء في عصره؟ في الواقع اعتبر الكثير من الأطباء مقترحات اجناتس إهانة لهم وتحقيراً لعلمهم واتهاماً خطيراً لهم بقتل النساء والأطفال مما دعاهم إلى تجاهله والهجوم عليه ويقال إن الأمر وصل بهم إلى إدخاله إلى مستشفى للأمراض العقلية حيث مات في سن السابعة والأربعين بسبب نقل الدم الملوث الذي حذر منه.. وبعد وفاة الرجل بسنوات اكتشفوا أنه كان على حق وأنه السبب اليوم في إنقاذ حياة مئات الآلاف وربما الملايين من البشر ولكنه دفع الثمن غالياً كما هي حال الكثير من المخترعين والمبدعين والباحثين.. ونغادر إلى سبعينات القرن العشرين حين وقف ستيفن ساسون أمام المديرين والفريق التنفيذي في شركة كوداك ليعرض اختراعه (الكاميرا الرقمية) عبر ربط عدسة الكاميرا بشاشة التلفاز وعرض الصور عليها. ويعلق ساسون قائلاً: "ما اخترعه وقتها كان أكثر من مجرد كاميرا، لقد كان نظامًا للتصوير الفوتوغرافي، حيث أظهر فكرة وجود كاميرا إلكترونية بالكامل لا تستخدم أفلامًا، ولا تستخدم الورق وقتها". كان ذلك الاختراع كفيلاً بتغيير صناعة الكاميرت في العالم وجعل كوكداك تستأثر بحصة الأسد باختراعها. ولكن تعاملت إدارة كوداك وقتها ببرود عجيب مع هذا الاختراع وكان التعليق:" التصوير دون استخدام فيلم شيء لطيف..لكن لا تبلغ أحدًا باختراعك هذا". في الواقع كانت إدارة كوداك لا تلقي بالاً لتغييرات المستقبل ولا تريد تغيير وضع المبيعات القائم على تحميض الأفلام. ولكن دار الزمن وبادرت شركات أخرى بهذا التغيير مما جعل مبيعات كوداك تتقلص حتى أعلنت إفلاسها تماماً في عام 2012م. وعلى العكس تماماً، قامت فوجي فيلم المنافسة لكوداك في عالم تحميض أفلام الصور في السبيعينات والثمانيانت بالاستثمار في الأبحاث والتطوير وابتكار منتجات جديدة مما جعلها من أكثر الشركات نجاحاً عالمياً في قيادة التغيير. وتعمل الشركة حالياً في مجالات الطابعات الذكية وتطوير الأدوية والعقاقير.. وباختصار، الناس بطبيعتها تكره التغيير والأفكار الجديدة. ومن الجميل أن يسبق المرء زمانه بابتكاراته واكتشافاته المفيدة للبشرية ولكن عليه أن يدفع الثمن ويتحمل في سبيل النجاح وتحقيق أفكاره البناءة..