حينما كنا صغارًا كنا لا نعد المعلم إنسانا من لحم ودم، دومًا بدوا لأعيننا الصغيرة أكثر مهابة من أن يكون لهم بيت يعودون إليه وأسرة وأطفال ومهام يومية وهموم ومشكلات خارج أسوار المدرسة كما هي حال بقية البشر، لا طالما بدت لنا معادلة ابنة + معلمة داخل الفصل غريبة جدًا وغير مستساغة لكأنما أحد يحاول إقناع أدمغتنا بأن حاصل جمع واحدٍ إلى واحد يساوي أربعة. أحببنا معلماتنا ولا شك، وفي كثير من الأحيان كانت المعلمة أقرب من صديقة، واهتمامها بنا مسّ حياتنا من قريب، لكن بإحساسٍ دفين كان محفورًا فينا قُدم الاحترام دائمًا على محبتنا تلك، أي أن المهابة والمنزلة الأعلى دائمًا حضرتا أولًا ثم أحببنا من أحببنا ونفرنا ممن نفرنا. وأتساءل الآن عن سبب بداهة هذا التصرف عندنا قديمًا، حيث لم يكن الدافع الأكبر هو حسن تربية أو تهذيب زائد من قبلنا، بل إنه مفهوم رسخ فينا بحق، مبدأ لا يمكن نقاشه أو التشكيك في وجوده، حقيقة واضحة كطلوع نهار الغد أو بزوغ فجر جديد بعد عسعسة الليل. لم يجرؤ أحد قط على التفكير بشكوى الملعم لأي كان حتى لأولياء أمورنا ما لم يكن الخطب جللا بحق. اليوم نشاهد هذا التحول الرهيب لتشويه مبدأ الاحترام الخالد في صدور أطفالنا. حينما تعمل المدرسة على توبيخ المعلم أولًا وترتعب من أي شكوى من أولياء الأمور، حينما يهدد المعلم من قبل طالب، حينما يوقن هؤلاء الأطفال أن المستقبل الوظيفي لرجل بالغ بأكمله معلق بين أصابع قبضاتهم الصغيرة حينها بلا شك يولد الاستهتار ويذوب الخوف الحميد الذي لا طالما حمله طلبة العلم لمعلميهم مذ وجد الفلاسفة الإغريق، تلك الطبقة الخفية الفارقة بينهم والتي لا بد من أن تكون حتى يكون نوعًا من التوازن يحقق انتفاع الطرفين، الرهبة دومًا تكون للأرفع مقامًا وإذ ما وضعت في مكانها الصحيح لا تنتفي معها المحبة قط ! أحببنا معلماتنا وبقين في ذاكرتنا يرافقننا حضورهن أينما حللنا وكيفما كبرنا وحيثما شاخت طفولتنا، هكذا تولد المعادلة الثلاثية لعملية التعلم والمحبة والاحترام معًا . جزء من الأمر تقع مسؤوليته على عاتق المعلم بالطبع، فإليه يرجع حب التلاميذ أو بغضهم، فالأطفال أذكياء يميزون بين من يؤدي التعليم كعبء ثقيل عليه أن يؤديه والسلام، وبين من حمل التعليم كرسالة وهدف منشود كتربية وأثر وغرس طيب يبذره في قلوب هؤلاء الصغار لينبت في قادم أيامهم وبين من لا يهتم للحظة بكل هذا. لستُ ضدّ المحاسبة والمراقبة لكني ضد كل من لم يعِ أن القيم أهم ما في المجتمع لا سيما مجتمع المدرسة الصغير الكبير برسالاته، حافظ على النظام لكن أيضًا حافظ على هؤلاء النشء الصغير الذين عُهد بقلوبهم وبغرسهم إلى يديك.