لما كانت اللغة هي ديوان الأمة الذي تعبر من خلاله عن قيمتها العلمية والثقافية بين الأمم والشعوب الأخرى، ليس فقط في العلوم النظرية بل وفي العلوم التطبيقية على حد سواء. هذا التعبير والصورة المرسومة عن هذه الأمة ليست فقط ظاهرة شكلية ترتبط بالمظهر دون تأثير على جوهر العقول والأفكار، وإنما هو تعبير حي لمعاني الحرية والاستقلال والكرامة التي تعتبر العامل الأساسي الذي تُبنى عليه مشروعات الطموح والتقدم لكل أمة من الأمم، وكل نجاح قام على أكتاف لغات أخرى فسيظل مجرد استنساخ لمعالم وثقافات مجاورة ومهدد بالانهيار في أي لحظة لغياب العوامل النفسية والفكرية المصاحبة لمشروعات النهضة والتقدم. وقد نُسب لابن خلدون قوله: «إن قوة اللغة في أمة ما، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم» وهذا أمر نشهده في وقتنا المعاصر مع بعض اللغات العالمية التي استحوذت شعوبها وحكوماتها على نصيب الأسد في المد الفكري والعلمي والصناعي وسط الشعوب الأخرى لا سيما المتأخرة حضارياً. والمظهر الذي نطمح إليه في تجربتنا مع اللغة العربية يتشعب في نطاقات متعددة منها مسألة الكفاءة اللغوية من جهة فصاحة اللسان وإتقان البيان، ومن أفضل الطرق لحصول هذه الملكة هي مهارة الاستماع التي تمنح المستمع ما يحتاجه من مفردات وتعابير وتراكيب لغوية يتحصل بها على ما يحتاجه للوصول إلى مستوى أفضل في الفصاحة والبيان، كما بين ابن خلدون في مقدمته: «إن ملكة اللغة عند المتكلم من العرب موجودة فيهم حين يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيُلقَّنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيُلقَّنها كذلك». وفيما أرى فإن التعليق الرياضي في المباريات إذا جاء بلغة فصحى سليمةٍ شكلا ومعنى فإنه يعتبر من أفضل الفرص لتطوير هذه المَلَكة عند أبناء اللغة خصوصا فئة الناشئة والشباب الذين يعتبرون أكبر الفئات المتابعة لهذه الأنشطة، ومن الإنصاف أن نقر بتمسك بعض المعلقين الرياضيين باللغة الفصحى ولو جزئيا في تعليقهم وهو أمر جيد لا يفوقه جودا إلا اعتمادها رسميا لمنشط التعليق الرياضي والسعي لتطوير الملكات اللغوية لدى المعلقين الرياضيين. لتقريب المقترح للأفهام أعرض نموذج الإعلامي الكبير الأستاذ المهندس إبراهيم الراشد - رحمه الله - في تعليقه على مباريات المصارعة الحرة في ثمانينات القرن الماضي. يبدأ الراشد الحلقة بتحية الإسلام ثم يستهل التعليق بسلاسة وعفوية ودون تكلف وبلغة فصيحة واضحة لا يلجأ فيها إلى استخدام العامية أو الأعجمية في جميع جوانب المباراة، بدءا من التعريف بالمتنافسين ومكان الحلبة وانتهاء بإعلان الفائز وتثبيت الكتفين ومرورا بالركلات والارتطام وما يلزم من التوضيح والاستطراد وشرح ما يجري على الحلبة من حركات ومراوغات يقوم بها المتنافسان، كل ما تتطلبه وظيفة المعلق لرياضة استعراضية غريبة على ثقافتنا وغير مألوفة لم تكن عائقا أمام الراشد لتقديم تعليقٍ وافٍ وكامل وفي أوضح أسلوب وأجمل بيان جاءت نتيجته كما عبرت عنها صحيفة الرياض (19 / 11 / 1438ه) «كان الراشد بتعليقه الراقي يستطيع بفضل ما حباه الله سبحانه من قدرة في فهم أكثر من لغة أن يترجم للمشاهدين كل ما يسمعونه كما كان يفسر لهم بعض الحركات والإيماءات التي تنم عن إدراكه وفهمه لثقافات الشعوب والأعراق المختلفة، بل واستطاعته القيام بالترجمة الفورية وهي أصعب درجات الترجمة، حيث يترجم ويعلق ويشرح ويفسّر ويستعرض كل ما يظهر للمشاهد، ومع هذا لم يكن تعليقه مجرد عرض لما يشاهده بل كان الراشد أديباً مفوهاً فصيح اللسان»، فالمحتوى اللغوي الذي كان يقدمه الراشد في تعليقه يشمل الترجمة والتفسير والتعليق والشرح والعرض، كله يصل لسمع المشاهد بعربيةٍ فصحى دون تقصير أو تفريط مستغنيا بها عن اللجوء للعجمة أو استخدام اللغة الدارجة على الرغم من كون هذا المحتوى لا يقتصر على معانٍ لغوية فحسب بل ومعان ثقافية (مرتبطة بثقافات وعادات شعوب بعيدة) ودلالية وتداولية تحكمها سياقات وقوانين دخيلة وغير مألوفة للمشاهد.