الاحتفاء السنوي للبيعة بتسلّم مقاليد الحكم في المملكة ليس تقليداً سياسياً سعودياً فحسب، وإنما هو نهج ومنهاج وطريقة تفكير تتجاوز الطابع الاحتفائي العادي، بمعنى أنها حالة سياسية تأخذ طابعاً عقلياً وفكرياً وثقافياً وتاريخياً أيضاً مهماً، ذلك أنها تمثّل قراءة للماضي ولراهنية الأحداث واستشرافاً للمستقبل، وإعطاء كلّ ظرفٍ استحقاقه من الإعداد والاستعداد والخطط ورسم الاستراتيجيات. وقد يزول الإبهام والعجب من هذا الاحتفاء الكبير بهذه المناسبة الاحتفائية الاحتفالية حين نعرف يقيناً أنّه نهج عبقري رسّخه المؤسس راسم المستقبل وصانع عبقريته الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- الذي كانت رؤيته الاستبصارية مجاوزة للزمن ولفكر مجايليه؛ وهي عبقرية فذّة وهبها الله له استطاع توظيفها في تأسيس دولة ضخمة ذات ثقل سياسي واقتصادي؛ دولة باتت من الأهمية والفاعلية ما يجعلها مرتكزاً لقرارات أممية دولية ومُنطَلَقاً لمشروعات وتحالفات كبرى لا يجسر على النهوض بها وباستحقاقاتها وتبعاتها إلاّ دولة بحجم وضخامة أدوار وفاعلية المملكة؛ وهو دور تأتّى لها من خلال موقعها الجيوسياسي المهم الذي حباها الله إياه دعّمته القيادة الحكيمة بحنكتها السياسية وأدوارها التاريخية الجسورة المستشرفة للمستقبل؛ استشرافاً واقتحاماً للمستقبل وتحدّياته دونما تفريط في المرتكزات القيمية التي نهضت عليها المملكة من تمسّك ثابت بديننا الحنيف وقيمنا المجتمعية الراسخة التي تتواشج مع الآخر وتعاضده ولا ترضى عليه الحيف والجور، وتحرص على استقراره وأمنه وحقوق جواره كحرصها على سيادتها وأمنها واستقرارها. وتأتي أهمية هذه البيعة أولاً من كونها امتداداً للنهج الملكي الذي سنّه المؤسس العظيم وتبعه أبناؤه الملوك البررة ثم من أهمية المرحلة الاستثنائية التي تشهدها بلادنا عبر أحداث وتحولات بالغة الأهمية على المستوى المحلي فيما يتعلق بقرارات تاريخية، وكذلك التأكيد على الوسطية الدينية التي تنبذ الغلو والتشدد وما يفضي إليهما مع ضرورة عدم الإخلال بالقيم الدينية المعتدلة والتي تعكس نصاعة ديننا وسماحته وعالميّته أيضاً باعتباره خاتم الأديان وصلاحيته لكل الأزمان والظروف. ولعل من المهم التنويه بقيمة التماسك النسيجي المجتمعي الذي يعكس حالة من الاستقرار والرخاء وصورة صادقة لنعمة الأمن والأمان التي ينعم به المواطن والمقيم والزائر والسائح على حدّ سواء؛ في حالة من التمازج والتواؤم والانسجام المجتمعي؛ كل هذا يرفده انفتاح واعٍ على الآخر دونما تفريط أو إخلال بالقيم والأعراف وقبلها الدين الإسلامي الحنيف. وتبقى البيعة أنموذجاً سياسياً رائداً نبتهج بذكراها ونستلهم منها الأمل والتفاؤل ونرسم عبر عبق حضورها خططنا واستراتيجياتنا مسترشدين بالرؤية الطموحة والعبقرية لسمو ولي العهد والتي جاءت شاملة في مضامينها وعوائدها المنتظرة في شتى الحقول الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية؛ رؤية مستبصرة ترمق المستقبل بعين واثقة لا تنظر للخلف؛ وإنما تطرق المستقبل بثقة ويقين لا يضعضهما تحدّ ولا يوقف توثّبها يأس أو تثبيط.