إذ آلمني أشد الألم أن اُتهم بالتعريض بجناب أحب الخلق إلي، والذي أقسم بالله غير حانث أني لا أثق بصلاة ولا صيام ولا عمل ولا حفظ آيات ولا شيء أرجى عندي، أتقرب به إلى الله من محبتي له، وشوقي إليه.. قد لا يشعر الظالم بأثر ظلمه على المظلوم، وقد وعد الله سبحانه بأن ينصر المظلوم ولو بعد حين. والظلم دركات، أسفلها ظلم ذوي القربى، وهو أشد على قلب المرء من وقع الحسام المهند. ويزداد الظلم سوءاً فوق سوءته، وحرقة فوق حرقته إذا كان الظالم ممن يُظهر الصلاح، ويتشبه بالمتقين، وينتسب إلى العلم الشرعي، ويظن به أن يكون أبعد الناس عن الظلم، وأقربهم من التحري والعدل والإنصاف. تذكرت هذا وأنا أنظر في سيرة حبيب القلب وسويدائه محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يستمع إلى تلك الكلمات تخرج من في من يراه ويسمعه ويتبعه، ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم قِسماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل. الحديث. وقد يقال إن هذا بذرة الخوارج، كما أخبر عليه الصلاة والسلام في تتمة الحديث، فهاك ما تعجب منه وهو في الصحيح أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. قلت: أما والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيته وهو في ملأ فساررته، فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: رحمة الله على موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر. هذه المواقف كانت لأطهر من مشى على الأرض وأتقاهم وأنقاهم وأخشاهم، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم، والله تعالى يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً). وإني والله لأرجو أني أرجو الله واليوم الآخر، وأسأله أن يجعلني ممن يذكرونه بكرة وأصيلا. وقد رأيت في سيرته، وتعلمت من كتابه الذي أنزل عليه، أن الحق منتصر مهما طال الزمن، وأن الاتهام الظالم سينال كل من سار على دربه، وسلك مسلكه، وتمسك بسنته، وارتضى سيرته، وقد وجدت في صحيح سيرته خبراً يقطر منه العجب، رواه البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه. الحديث. والشاهد منه أن الجمع من كفار قريش يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرياء، وهو حامل لواء الإخلاص والصدق واليقين. لقد كان في هذه القصص لي سلوة وتفريج، إذ آلمني أشد الألم أن اُتهم بالتعريض بجناب أحب الخلق إلي، والذي أقسم بالله غير حانث أني لا أثق بصلاة ولا صيام ولا عمل ولا حفظ آيات ولا شيء أرجى عندي، أتقرب به إلى الله من محبتي له، وشوقي إليه، وأقصى أمنياتي أن أنال ما بشر به حين قيل له: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: المرء مع من أحب. فيليني هذا القول منه عليه الصلاة والسلام ويخفف خوفي، وجزعي، أني وإن لم أره، حتى في المنام، فقد علمت صفاته، وقرأت سيرته، وأحببته كل الحب، لا مراء فيه، ولا نفاق، ولا أرجو به قرباً من بشر، ولا مالاً، ولا دنيا، إنما هو حب قذفه الله في قلبي رحمة منه، وفضلاً وكرماً ومنة، زاده ما قرأت في كتاب الله، وما سطرته كتب السير عنه، وما جاء في صفاته وأخلاقه، فكان حبه ينمو كل يوم، وأظن أن لا مزيد، فإذا هو مع كل عاصفة، أو فتنة، أو يوم جديد، يزداد حبه نمواً في القلب، وينشرح القلب بذكره، فلا يمل، بل كأنه جهنم، يقال لها "هل امتلأت فتقول هل من مزيد". وكأنه الكون حين يصفه خالقه فيقول: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون). فعجباً لهذا القلب الصغير كيف استطاع أن يحمل كل هذه السعة من محبة المبعوث رحمة للعالمين. صلى الله عليه وآله وسلم. فلا أباح الله من رماني بالتعريض به، أو التنقص منه، أو الكذب عليه، فروحي لذكره فداء، ونفسي لعرضه فداء، بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي ومالي. إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم هذا، والله من وراء القصد.