السر في حيوية الإسلام وتجدده التاريخي يكمن أساسًا في طبيعته المدنية، فقدرة الإسلام الدائمة على تجاوز التاريخي والمعاش كامنة في حيز الحرية والاجتهاد وانفتاحه العام على جميع الطبقات واستيعابه للعقل واجتهاداته المتغيرة.. في تتبعنا لمسار العلمانية وعلاقتها بالفكر العربي يتبين لنا مدى تفاعل بعض قادة الرأي العربي مع الفكرة العلمانية وتحولاتها وتفاعلاتها في النطاق الفكري والفلسفي رغم الصعوبات التي واجهت بعض المفكرين في إدراك تداخلات وتناقضات تلك التيارات الفكرية العالمية التي جاءت بها التغيرات الكبرى التي عرفتها أوروبا خلال القرن التاسع عشر. هذا الموقف التأملي الفكري من تلك المذاهب الفكرية خلف شعورًا بالعجز عن إدراك واقع تلك التيارات والمتغيرات الكبرى على الفكر العربي، فالفكر المغترب عن محيطه الحيوي يصنع فكرًا مغتربًا، وفي هذه الحالة لابد من تحوير الواقع ليتلاءم مع الفكر أو الالتزام بالخط الفكري الغربي وبذلك يصير فكرًا مفتقرًا إلى مقومات الحياة داخل محيطه وبيئته. فعندما نقف على السياق المعرفي العام لنشأة الفكرة العلمانية في الفكر العربي الحديث من خلال الوقوف على العلاقة ما بين الدين والسياسة في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي انطلاقًا من مفهوم العلمانية نجد أن الحديث عن العلمانية بصيغة المفرد لا يعني أننا بصدد نموذج واحد، ذلك أن العلمانية تتعدد مفهومًا ونموذجًا وتطبيقات بتعدد الأطر المرجعية الحضارية الثقافية والدينية والفلسفية وبتعدد السياقات التاريخية والتجارب السياسية والاجتماعية وبتعدد وتنوع الرؤى والتصورات والاجتهادات المرجعية والتجارب السياسية المؤتلفة والمختلفة منها على حد سواء. فإذا كان الإسلاميون المحدثون يربطون دخول العلمانية في الوعي العربي الحديث بدوافع وأسباب التغريب الثقافي فمثلًا د. برهان غليون مع وعيه بالمؤثرات الغربية يذهب إلى أن نشأتها جاءت عن طريق مفكرين كمحمد عبده والأفغاني، حيث أدركا بحسهما العميق ضعف الروابط الاجتماعية وعجز المفاهيم السياسية التقليدية في تجديد الأسس الأخلاقية والروحية في وقت خمدت فيها روح الوطنية الجامعة ومن ثم التقت العلمانية في ذهن أولئك المفكرين المحدثين مع العقيدة الإسلامية في رفض الكهنوتية وارتبطت بتأكيد حرية العقل وحقه في الاجتهاد وما كان لها أن تثير لديهم أي مشكلة على مستوى ضميرهم الديني، فقد اعتبرها الفكر الإصلاحي الإسلامي من الأمور التي سبق بها الإسلام المجتمعات الغربية الحديثة ليس كمجرد قاعدة إجرائية للتمييز بين صلاحيات كل من السياسي والديني ولكن بما هي طريقة في فهم الوجود الإنساني والسياسي ذاته وقيمه، ولهذا فهو يعتبر أن الفكر الإصلاحي الإسلامي أكثر تقدمًا وإيجابية من فكر الصحوة الإسلامية المعاصرة. ولكن سرعان ما طرأ التراجع على يد محمد رشيد رضا عن تراث الإصلاحية الإسلامية وتراث شيخه محمد عبده تحديدًا، وهو تراجع طال مجمل القضايا التي قررها مصلحو القرن التاسع عشر بخصوص الاجتهاد وعلاقة الديني بالسياسي والاجتماع المدني ومستلزمات تقويته وتطويره ولعل ذروة تعبيره عن ذلك التراجع تمثلت في انفصاله عن منظومة الفكر السياسي الحديث من خلال تبنيه منظومة السياسة الشرعية التي أقامها على أفكار ابن تيمية. ويخلص د. محمد أركون إلى أن عدم طرح إشكالية العلمانية في الفكر العربي الإسلامي قبل العصر الحديث يجد تفسيره في كون الإسلام هو الذي أسس بنفسه للحيز المدني وأكد عليه وشرع له منذ أن جعل الرسالة خاتمة النبوة وكل وحي في العالم. فالطابع المدني للفكر الإسلامي هو الذي ساعد على تجذره في المجتمع وجعله شديد الارتباط مع ما نطلق عليه اليوم بالمجتمع المدني. فالسر في حيوية الإسلام وتجدده التاريخي يكمن أساسًا في طبيعته المدنية، فقدرة الإسلام الدائمة على تجاوز التاريخي والمعاش كامنة في حيز الحرية والاجتهاد وانفتاحه العام على جميع الطبقات واستيعابه للعقل واجتهاداته المتغيرة. وهو ما أعطى للإسلام شخصية فذة تعبر عن الحيوية الذاتية العميقة التي تختزن إمكانية تجدد لا نهائي وإنجاب النماذج التاريخية بالعودة إلى النفس الأول للمبادئ والأصول، فحرية الإيمان والاعتقاد واستقلاله في الإسلام قاعدة تميزه الأولى ومصدر تفوقه. ولذلك ينفي د. غليون أن يكون الإسلام قد عرف أي شكل من أشكال السلطان الروحي فهو لم يخص الفقهاء بأي معرفة تختلف مصادرها عن المصادر التي يمكن أن تصل إليها يد أي باحث في الأمور الشرعية، فالنفاذ إلى المعرفة الشرعية مفتوحة المناهج والمصادر ويترتب على هذه المساواة الفكرية عدم وجود التراتبية الدينية، فالكل يعيش بالاجتهاد وعلى الاجتهاد الذي يستطيع كل فرد مسلم أن يصل إلى مرتبته بالجهد العقلي البشري المحض. ولذلك يترتب من جهة أخرى صعوبة التمييز بين المدني والديني أو خلق التناقض بينهما، فالاجتهاد في الدين نفسه هو عمل مدني، وهذا هو السبب في غياب إمكانية الفصل بين مجال إنتاج المعرفة الدينية ومجال إنتاج المعرفة المدنية أي العلوم العامة العقلية. ذلك أن التربية الدينية كانت جزءًا من التربية المدنية مثلما كان العلم المدني عبادة دينية فلأن المعرفة كانت واحدة ولم يكن هناك احتكار لمعرفة دينية خاصة، ولذلك أصبح التكوين واحدًا للأفراد جميعًا دينيًا ومدنيًا معًا دون تناقض أو تعارض. وهذا يتأتى من طبيعة العلاقة ما بين الديني والمدني في التجربة التاريخية الإسلامية فهي طبيعية توافقية والتلاحم بين المدني والديني يعد بمثابة الأرضية المساعدة على السيطرة الذاتية وتفتح العقلانية التي لا غنى عنها لكل مدنية وذلك في إطار رؤية شاملة. فالتماهي والالتحام بين الدين والمجتمع يكمن في قوة النموذج التاريخي الإسلامي؛ لأن هذا التماهي مكن الإسلام من البقاء قريبًا جدًا من حياة الناس مما أفاد في توسعه وانتشاره ما جعل منه مصدر كل التجديدات والاجتهادات الإنسانية في كل الميادين بفضل كونه وعاء حضاريًا وليس مجرد شعائر تعبدية. فالفصل بين السلطتين الزمنية والروحية - على حد رأي د. غليون - لا ينبغي أن يكون فصلًا مكيانيكيًا إقصائيًا، وإنما يجب أن ينبني على أساس وظيفي تحكمه علاقة توافقية من حيث دور كل واحد منهما وعلاقته بالآخر على مستوى الأدوار والوظائف، وهو الفصل الذي حكم التجربة الحضارية العربية الإسلامية، ودلل عليه باحثون ومفكرون من مشارب مذهبية ومعرفية مختلفة من منطلق أن الأمة المسلمة وجدت أولًا ثم بعد ذلك أوجدت الدولة.