أكياس من الرمل يتمترس خلفها شبان مسلحون بالكلاشينكوف، يحاصرون جداراً سميكاً له أبواب متعددة، يقبع خلفها آلاف الأطفال، وآلاف النساء، وآلاف الشيوخ، يرصدون مرور أي كائن ليطلقوا النار عليه، لأنهم قتلة يأتمرون بأوامر المعلم، فيما بيروت تحترق من أقصاها إلى أقصاها، نتيجة إخفاق الرفاق بالاتفاق على تحرير فلسطين، يستمرون في التمترس لأيام طويلة، يرصدون أي حركة أمام هذه الأبواب المحاصرة، فتخرج من أحد هذه الأبواب طفلة صغيرة تخطو نحو صنبور الماء لتروي عطشها، فيسدد أبو حرب بندقيته باتجاهها فيرديها قتيلة، يصفق الرفاق له، أبو نضال يرصد ذلك من غرفة العمليات، فيرسل كلمات شكر باللاسلكي لأبي حرب، يحييه على دقة إصابته للعدو، يرد أبو حرب: ولو يا سيدي هيدا واجبي.. تلك اللقطة بالأبيض والأسود من ذاكرة حرب لبنان، تلك الحرب التي كان شعارها تحرير فلسطين، التي خلفت لبنان وأصابته بالوهن، فأصبح مقعداً على كرسي متحرك، نتيجة المذهبية والطائفية والحزبية والفئوية، فيما كان لبنان يمثل رئة العالم آنذاك، وحضناً دافئاً يجد به المثقف والمفكر والسائح ملاذاً آمناً، كان ذلك في الثمانينات، عندما كان الحلم العربي متماسكاً، قبل أن يهوي إلى السحيق، كان أبطال تلك الحرب هم أبو نضال وأبو شيماء وأبو جهاد، والعديد من تلك الأسماء المحتدمة، التي أزهقت مئات الأرواح البريئة، وذهبت الحرب وأخذ المواطن العربي يتماثل للشفاء، أمان إلى الحرب ومخلفاتها القذرة، واعتقد أنها ذهبت بلا رجعة لكن حلمه كان كاذباً، لقد رجعت الحرب في الألفين، وكانت أشد ضراوة، وأكثر قسوة، وأبشع دموية من تلك الحرب تحت شعار الربيع العربي، في حرب السبعينات كانت الناس تقتل وقتها عبر المشانق، والكلاشينكوف، وكان يعد وقتها قتلاً رحيماً، قياساً بقطع الرؤوس، وبتر الأطراف، والرجم بالحجار حتى الموت، هذا بالنسبة لهذه الحرب بينما قادتها فهم أبو قتادة وأبو أنس وأبو البراء وما إلى ذلك من الأسماء، هذه الحرب ما زالت باقية تدور في المدن والقرى العربية حتى هذا اليوم.. والسؤال هو: لماذا التحولات العربية يرافقها شلالات دم هائلة وفادحة؟