ينفر بعض منظّري كتابة الرواية من اعتماد المؤلفين على الصُّدف في أعمالهم، ويحذّر جاك مايلز بيكهام من ذلك فيقول: «تحدث المصادفات في الحياة دائمًا، ولكنها في القصة مُهلِكة، ولا سيما عندما تُسعِف المصادفة الشخصية في أن تكون في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، أو في استراق السمع لمحادثة هاتفية حاسمة، أو نحو ذلك، والمصادفة في القصة مهلِكة، والقرّاء يرفضون تصديقها، ولا تستطيع أن تتحمل عدم تصديق قرّائك. وعندما تُسعِف ذراع المصادفة الطويلة شخصيّتك الروائية، فإن الأمر مجرد حظّ، فإن قرأت عن شخص متخبِّط أنه وُفّق، فإن ذلك لن يكون مُثيرًا ولا مُلهِمًا بالنسبة إليك. فالقصة التي تمتلئ بالمصادفات هي أقرب إلى أن تكون بلا معنى؛ إذ ليس هناك من سبب حقيقي وراء حدوث هذه الأشياء: إنها مجرد صدفة. ويكفي هذا في الحياة العمَلية، أما في القصة فلا». لكن: كيف يتصرّف الروائي إذا أراد أن يبني لقاء الشخصيات وتفاعلها على مصادفات؟ لنتطرق في هذه العُجالة إلى طريقتين: إحداهما طريقة الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ في روايتها: «النباتية»، والأخرى طريقة الكاتب التشيكي المخضرم ميلان كونديرا، في رواية «كائن لا تُحتمل خفّته». أما رواية كانغ «النباتية» فهي تقتحم المصادفة بطريقة مباشرة، ففيها: الزوج مهووس بالوشوم النباتية، ثم تظهر على جسد ابنه بُقعة كالوشم، ويسوق الحديث العفوي عنها زوجتَه إلى ذِكر وشم آخر على جسم أختها، وأخت الزوجة مُولعة بالنباتات بسبب مرض غريب مفاجئ ألمّ بها... وهلم جرّا، في سلسلة من المصادفات. وأما كونديرا فهو ينطلق في روايته «كائن لا تُحتمل خفّته» من «المصادفة» نفسها وفلسفتها، وهذا هو العمل الوحيد الذي أعلم أن الروائيّ صرّح فيه مرات عدة بأن الشخصيات أنفسهم يدركون أن الصدفة هي ما جمعهم بأولئك الذين اتحدت مصائرهم بمصائرهم هم فيما بعد. ورواية كونديرا تنص على أن الصدفة وحدها يمكن أن تكون ذات مغزى؛ فما يحدث بالضرورة، وما هو متوقع ويتكرر يوميًا: يبقى شيئًا أبكم، والصدفة وحدها هي الناطقة. وفي هذه الرواية نجد أن وجود البطل بالنسبة إلى البطلة في مكان واحد كان تجسيدًا مُطلَقًا للصدفة، وتتسلسل بعدها صُدف متوالية، والبطلة تدرك ذلك، وتحاول جاهدةً القراءة في هذه الصدفة. ويظهر لنا من خلال «كائن لا تُحتمل خفّته»، أن الصدفة وحدها الأمر الذي له هذا السحر، وليس الضرورة التي تقود إليها صيرورة الأمور، ولكي يكون الحب غير قابل للنسيان، فإنه يجب أن تحتشد له الصُّدف منذ اللحظة الأولى. لقد بنى كونديرا عمَله على فكرة الصدفة نفسها وقيمتها في الحياة والحب، كما أنه كان يكتبها وهو يخاطب قارئه مباشرة، وكلاهما (أي: الكاتب والقارئ) يعلمان أن الرواية تظهر في حياتهما. وأما كانغ فهي تقدّم لقرّائها حياةً في الرواية، ومن أجل هذا الفرق الدقيق استطاع كونديرا أن يجيء ببعض الحلول الاستثنائية لمعضلة «المصادفة في الرواية». يمكن لنا أن نُحيل أصل الصُّدفة في عمل الكورية كانغ إلى قصة «الوشم» التي كتبها الياباني جونيشيرو تانيزاكي عام 1910م (أي: قبل الرواية الكورية بنحو قرن)، وبطل هذه القصة اليابانية شابّ رسّام واشم، وهو يتلهف منذ سنين عدة على أن يُخضع لإبرته جلدًا صقيلًا، ويصادف في أثناء تمشّيه قدمًا جميلة، فيدرك أن هذه القدم هي التي يريد أن يَشِمها، ولكنه يفقد أثر القدَم في الزّحام. وبعد أن يمرّ عام (يا للمصادفة) تأتي إليه صاحبة القدم، فيجبرها بالقوّة على أن يرسم عليها وشمًا عنكبوتيًا، وعندئذ تتحول الفتاة الضحية إلى أنثى عنكبوت قاتلة. إن التسلط الذكوري مسَخ بطلة «النباتية» إلى كائن رافض محتج مريض، يخوض تجربته الذاتية بطفرة نفسانية غير ناجحة. لكن التسلط الذكوري في قصة تانيزاكي ينتقل بالدم إلى الأنثى، والأنثى تُعيده مضاعَفًا إلى الرجال؛ وبهذا فإن الأمر يتجاوز لدى الكاتب الياباني الأصيل تلك النظرة النسويّة المجرّدة الموجودة لدى الروائية الكوريّة، وتتخطى قصة «الوشم» رواية «النباتية» (مع أسبقيتها لها بنحو قرن من الزمن) إلى أفق الامتزاج والتماهي؛ فتكتسب روح الأسطورة الأدبية القابلة أنْ تكون شعبيّة وحضرية في آن. *باحث وروائي. رواية كونديرا في طبعة فرنسية الياباني تانيزاكي ميلان كونديرا