ألاحظ في عالمنا العربي اللطيف، وبالذات في صفحات أدبنا الخليجي، احتفاء نقدياً متكرراً ومبالغاً فيه من كثير من النقاد وكثير من الكتاب وليس الكاتبات، تجاه الروائي والناقد ميلان كونديرا، ولا أريد أن أدخل طريقاً معاكساً، وأرتكب فعل المبالغة في التقليل من شأنه، فهو روائي موهوب وفي رواياته لحظات سرد جميلة ومهمة، كما أنه ناقد قادر على تقديم رؤية فلسفية مضيئة وجديدة، ومختلفة أحياناً، حيال الكثير من هموم الحياة المعاصرة. ولكن المشكلة الجوهرية في روايات كونديرا، وقد تضربها في الصميم، وتجعلها أقل قيمة من بعض التجارب الروائية العالمية المتقدمة جداً، أن الرؤية الفلسفية في نصوصه الروائية حول مختلف جوانب وهموم الحياة السياسية، والاجتماعية أيضاً مثل الزواج والطلاق والصمت والملل والصداقة والحب والموت والعلاقة بالأبناء إلى آخره، هي في الغالب تنظيرية وليست حياة سردية تصرفات وسلوك داخل حكاية النص هي تنظيرات يقولها أبطال رواياته لزوجاتهم ولصديقاتهم ولأصدقائهم في اللقاءات التي غالباً ما تكون في المطاعم، بمعنى أنني أتعرف على الرؤى الفلسفية لهؤلاء الشخوص أو البشر، ليس من خلال تصرفاتهم وتحركاتهم داخل النص، فهذه الرؤى الفلسفية ليست ضمن نسيج البناء الدرامي للنص الروائي، هي في الغالب مقولات ثقافية أشبه بمحاضرات ينطق بها شخوص الرواية، وقد يكون هذا مقبولاً لو كان محدوداً في مشاهد معدودة تبررها حالة معينة سياسية أو اجتماعية، لكنه يتعدى ذلك ليغطي مساحات واسعة من رواياته ليكون جوهر البناء الفني للنص الروائي عند كونديرا، كما أن معظم نصوصه الروائية أقرب إلى النص المسرحي بنبرته الخطابية الفلسفية الجافة والمباشرة، ففي بداية رواية البطء نلاحظ فجأة، فلسفة عن أسباب حوادث الطرق في فرنسا وعن غياب البطء في حياتنا المعاصرة، يقول البطل:"السرعة هي شكل النشوة التي خلعتها الثورة التكنولوجية على الإنسان. تحالف غريب، التجريد البارد للتكنولوجيا مع لهيب النشوة والانخطاف"ص7!. كلام أقرب ما يكون إلى رؤية عالم نفس متخصص وليس بطل رواية عادي!، وأيضاً ص37 من رواية"الهوية"ص 36 من رواية"كائن لا تحتمل خفته"، ص 40 من"البطء"، وهذه لحظات ثقافية تنظيرية عالية تتكرر في روايات كونديرا كثيراً جداً، وربما هي جوهر رواياته التي تمضي على وتيرة سردية ضعيفة وحوارية تنظيرية قوية. معظم أبطال روايات ميلان كونديرا مثقفون وهنا لا توجد مشكلة، لكنهم أحياناً يطلقون رؤى نقدية فلسفية متخصصة جداً تفوق مستوياتهم بطريقة واضحة ومبالغ فيها، تضعف صدقية النص السردي الفنية، إلى درجة يمكن القول معها إن كائناً ثقافياً عالياً خطف الرواية من بطلها وصار يتسيدها كما يعبر الصديق الناقد محمد العباس أحياناً، فأحد أبطال كونديرا، هو نصف طبيب في"الهوية"، حيث درس الطب ثلاث سنوات ثم هرب من الدراسة يبحث عن امرأة تكون صديقة وليست زوجه فوجد شانتال التي تركت زوجها بعد وفاة ابنهما، وفي"كائن لا تحتمل خفته"البطل طبيب رسمي ومنظر كبير طلّق زوجته وأطفاله، وانشغل مع صديقتين احتار بينهما، لاحظ تشابه أجواء الروايتين، وتكرر هذا كثيراً في رواياته حيث يسخر من مؤسسة الزواج بطريق متكررة. ربما لهذا كونديرا في"الهوية"يبحث بقصدية واضحة جدا ومباشرة ومكشوفة عن مناسبة لكي يفلسف ظاهرة الصمت بين الزوجين، فيذهب بالبطل الطبيب وصديقته شانتال إلى المطعم، ويكتشفان أن أمامهما زوجين صامتين، فيبدأ في شرح أو فلسفة هذا الصمت لصديقته، وفي كثير من رواياته نجد لأبطاله أيضاً رؤى فلسفية هي على قدر كبير من الوعي الثقافي التي تجعلني في حال إعجاب، ليس بالروح السردية للنص، وليس بالاستبطان السردي العميق لشخوص النص الذي نجده مبدعاً عند أدباء معروفين، لكنه الإعجاب الموقت الذي ينتهي حال انتهاء أحد شخوص روايات كونديرا من رؤيته الفلسفية تجاه الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الحياتي بشكل عام. فأعمال هذا الكاتب هي مزيج من النقد السياسي والاجتماعي والفلسفي والكوميدي، كما نجد في رواياته ذلك التداخل بين المقالة والقصة والرواية والسيرة، مقتربة كثيراً من الوقائع التاريخية والاجتماعية والسياسية بخيال خصب فعلاً، كما أن الأفكار أحياناً تتكرر في رواياته بشكل غريب جداً، مثلاً فكرة الناس غير المرئيين، إذ نجدها في رواية"الهوية"وفي رواية"البطء"أيضاً، كما تتكرر عبارة البطلة شانتال في رواية الهوية:"نعم الرجال لم يعودوا يديرون وجوههم نحوي"مرات عدة بلا ضرورة روائية. ربما لهذا يقول الناقد العربي احمد الخميس في مقال له بعنوان:"كونديرا موهبة بلا أجنحة، تحتاج الموهبة إلى أجنحة ذاتية وإنسانية قوية لتتمكن من التحليق إلى أعلى القمم. لكن هناك مواهب مثل كونديرا، تنتمي إلى الطيور ذات الأجنحة الضعيفة، التي ترتفع لحظة وتزحف سنوات، ولا تحلق أبداً". وقد كان له رؤية لافتة حول أدب كونديرا. ولو حاولنا الاقتراب من البطل قليل الثقافة الموجود في الرواية العالمية بكثرة، على سبيل المثال رواية ماركيز"مئة عام من العزلة"، الجد جوزيه اركاديو بوينديا وزوجته وبناته وأولاده جميعهم نصف مثقفين أو أقل أو أكثر، لكنهم مهمومون بوطنهم ولهم رؤية حيال ما يحدث، ولم يتحدثوا في الرواية بلغة المثقفين المتخصصين، لكنهم ينسجون حكايات شعبية لها رؤيتها الفلسفية العالية غاية في العمق والجمال بلغة بسيطة وعميقة ومتماسكة غير متكلفة، الرأي نفسها يمكن أن يقال مع بطل رواية كل الأسماء لجوزيه ساراماغو. وبطل روايتي الحمامة والعطر لزوسكيند وأبطال روايات إبراهيم أصلان وكواباتا، لكننا قد نتوقف هنا أمام غالبية أبطال روايات يوسا، إذ يمكن القول إنهم يقفون في المنطقة الوسطى بين المثقف عالي الثقافة والإنسان البسيط متوسط الثقافة، ففي"شيطنات الطفلة الخبيثة"، البطل خريج جامعي وكذلك البطلة الشقية حبيبته، هو محب للقراءة إذاً، فهو مثقف، ومن الصعب القول إن مثقفاً خطف الرواية من بطلها وصار يتسيدها لمجرد أن بطل الرواية له هموم وطنية سياسية واجتماعية!، لكن روايته تمضي باللغة البسيطة العميقة غير المتكلفة التي تصف أحداثاً يرتكبها أبطال أصحاب ثقافة متوسطة ويعيشون حياة ثرية تكشف تحركاتهم داخلها عن طبيعة فلسفتهم ورؤيتهم للحياة، في بناء سردي حكائي حقيقي، وليس مفتعلاً أقرب إلى المحاضرات منه إلى السرد. ليس المهم أن يكون البطل مثقفاً أو إنساناً متوسط الثقافة مثلاً، فمقياس صدقية النص الأدبي تعود للأداء السردي وكيفية المعالجة ومقدرة اللغة وعدم تكلفها وعدم افتعال المواضيع والحكايات، المهم فنياً ألا يتحدث البطل بلغة فوق مستوى ثقافته لغة المتخصصين، فلا يمكن قبول بطل غير متعلم يتحدث بلغة فوق مستواه مثلاً، ولا يمكن قبول بطل يتحدث بلغة القاموس الصعبة أو لغة البلاغة أو الفلسفية المتخصصة لكي يثبت أدبية النص أو لمجرد أن البطل مثقف، لكن من حق البطل المثقف أو متوسط الثقافة وخريج الجامعة في بلده أن يكون مهموماً بقضايا أمته وتكون له رؤية سياسية واجتماعية بلغة واضحة، وليست لغة أكاديمية مثلا. أيضاً ليس بالضرورة أن يدعي هذا البطل المثالية والتفاؤل بالتغيير في واقع لايدعو إلى ذلك، من أجل أن يقال عنه بطل إيجابي أو بطل إشكالي، لوكاتش يقول إن البطل الإشكالي هو البطل الباحث عن تحقق مفقود، هو الباحث وليس المغير، من جانب آخر فقد سألوا الروائي العربي إبراهيم أصلان: هل بطل روايتك سلبي؟ وذلك عندما وجدوا أنه يعيش حالة إحباط بسبب واقع متردٍ وفاسد وفوضوي وميؤوس منه، أجاب أصلان:"لا أظن، لكن بالتأكيد أنه لا يستطيع التفاعل مع واقع لم يشترك في صياغته أو صناعته". بهذه المناسبة أتذكر عبارة في مقالة الناقد الأستاذ محمد العباس عن رواية"كائن مؤجل"قال فيها:"الأمر الذي يعني أن مثقفاً خطف الرواية من بطلها، وصار يتسيدها وليس مجرد كائن عادي". إذ توقفت عند عبارة كائن عادي، أحاول فهم من يكون الإنسان العادي، هل الشاب خريج الجامعة إنسان عادي، أم هل هو غير المتعلم؟ لكن الأستاذة شمس المؤيد عقّبت بالتفسير:"ما يقصده الأستاذ العباس أن الكاتب أخذ على عاتقه مهمة الكلام، بدلاً من البطل الذي يفترض انه الكائن البسيط، الذي يعاني من عدم إحساسه بقيمته في مجتمع لا يعترف بكينونته كفرد. وهو كائن بلا قيم شخصية، لأنه لا يملك رأياً خاصاً به ولا موقفاً محدداً ولا يُظهر أي طموح أو رغبة في إعادة صياغة حياة جديدة لتغيير هذا المجتمع المرفوض. وبطل كهذا لا يمكن أن يحمل صفات البطل الإشكالي بحسب تصور لوكا تش الذي يكون عنصراً موجوداً داخل الرواية، ولكن له مرجعيته في العالم الواقعي". وهي هنا تكرر أن الكائن العادي هو الكائن البسيط، لكنني أسأل: عندما يكون بطل رواية ما خريج جامعة وممثلاً مسرحياً مهموماً بقضايا وطنه وأمته، فهل هو مثقف أم لا ؟ إذا كان مثقفاً، لماذا نقول إن مثقفاً خطف الرواية من بطلها وصار يتحدث نيابة عنه؟ وإذا كان بطل بهذه الصفات يعتبر غير مثقف فمن هو المثقف؟ هو مثقف لكنه ينتمي إلى أسرة مكافحة وليست أسرة غنية... فهل صارت الثقافة حكراً على شخوص كونديرا الأغنياء مثلاً. ومن جهة أخرى، فالنص قليل الأدب أو ضعيف المستوى الأدبي، ما زال للأسف يملأ أرفف المكتبات في كل مكان، ولا يزال أصحابة يعتلون منابر المؤتمرات التي يركضون إليها زرافات ووحداناً، حتى على مستوى العالم نجد شكوى من الأعمال الأدبية، بالذات الروائية، المتسرعة غير الجادة أو غير المهمومة التي بلا قضية أو المنحولة أو المسروقة، ربما لهذا تقول الكاتبة الكرواتية دوبرافكا اوجريسك، في مؤتمر أدبي بالسويد عُقد في الصيف الماضي:"الأدباء الجادون الآن مثل العصافير فوق فروع الشجر يذهب شدْوُهم في الخلاء كأنه عناصر ميتافيزيقية. وقالت إن السوق أصبحت قوة نافذة وإنه بات وشيكاً أن يفقد الأدباء الجادون ميراثهم التاريخي والأدبي، وهذا خطير". وربما ما حدث في الاقتصاد سوف يحدث قريباً وتنفجر بالونه الأدب الإعلامي الزائف فوق رؤوسنا جميعاً، وقد يكون هذا طريقاً للتصحيح.