في اعتقادي أن هناك كثيرين مثل جيمس ستيل بدأوا وانطلقوا من جامعاتنا، وتشكلت مفاصل فكرية مهمة في حياتهم المهنية، أعقبت وجودهم في المملكة، وأنا هنا، دون شك، أثير علامات استفهام كبيرة حول عدم استمرار هؤلاء عندنا.. في عام 1988م كنت طالبًا في كلية العمارة في جامعة الملك فيصل (الإمام عبدالرحمن بن فيصل حاليًا)، وكان أحد أساتذتنا اسمه جيمس ستيل أميركي الجنسية (مولود في بنسلفينيا)، وكان يدرس مادة "قضايا معاصرة في العمارة". الرجل كان في غاية الهدوء والاتزان، وكان بسيطًا في حديثه، لكنه كان ذا تركيز عالٍ جدًا في المادة العلمية التي يقدمها في الدرس، خصوصا أنها كانت جديدة كليًا؛ لأنه كان ببساطة يحاول أن يربط السياق المعماري العربي والسعودي في نهاية الثمانينيات بالسياق المعماري العالمي، الذي كانت تهيمن عليه مدرسة ما بعد الحداثة آنذاك. ما زلت أذكر ستيل وهو يتحدث عن المعماري المصري حسن فتحي والمعماري عبدالواحد الوكيل، ويقدم معماريين شبابًا في تلك الفترة من السعودية والأردن وغيرهما، ويحاول أن يوجد توليفة فكرية "عربية" في العمارة لم تفلح أبدًا كي تتحول إلى مدرسة حقيقية، ولكنها كانت محاولة مهمة جدًا في تلك الفترة المبكرة. جيمس ستيل بدأ حياته المهنية معلمًا للعمارة في الدمام عام 1980م، ولم يكن قد مارس هذه المهنة من قبل، وبعد أن ترك السعودية عام 1988م (ويبدو أني كنت آخر من علمهم في السعودية) تحول إلى كاتب مشهور في النقد المعماري، وهو حتى الآن يحظى بشهرة واسعة في هذا المجال. يقول لي إنه كان يحاول أن يتحدث عن المدارس المعمارية، فلا أحد كان يكترث لما يقول، وفي يوم تحدث عن حسن فتحي فوجد اهتمامًا كبيرًا، فقرر أن يكتب كتابًا عن هذا المعماري العربي (المفكر من وجهة نظري)، ويبدو لي أن الاهتمام نشأ أصلاً من خلال زيارة حسن فتحي لكلية العمارة في جامعة الملك فيصل عام 1980، وهو العام نفسه الذي بدأ فيه ستيل عمله في الكلية، وكانت مناسبة زيارة فتحي هي المؤتمر العالمي للعمارة الإسلامية، الذي نظمته الكلية وأحدث تحولاً كبيرًا في الأفكار في تلك الفترة، التي كان فيها مصطلح "عمارة إسلامية" في بدايته. يجب أن أقول إن تلك الفترة (نهاية السبعينيات والثمانينيات) هي فترة صناعة الأفكار المعمارية، وهي الفترة التي بدأ فيها الجيل الأول من الأساتذة السعوديين الذين تعلموا في المدارس الأوروبية والأميركية العودة إلى المملكة، كما أنها الفترة التي ظهرت فيها المؤسسات التي تنادي بالثقافة الإسلامية الجامعة حتى على مستوى العمارة (مثل جائزة الأغاخان للعمارة الإسلامية التي تأسست عام 1977م). إنها فترة تاريخية لا تتكرر لبناء فكر جديد، وكانت كلية العمارة في الدمام مستعدة لتبني هذا الفكر، لكن فجأة اختفى ذلك الحماس وتراجعت كل الأفكار. قبل أيام كنت مع ستيل في الدمام، وهو الآن في العقد الثامن من عمره (76 سنة)، وقال لي إنه يحن للسعودية، ويتمنى أن يعيش فيها مرة أخرى، فهي البلد الذي غير حياته، ومنها تشكل عمله المهني أستاذًا للعمارة (وهو الآن بروفيسور في جامعة جنوب كاليفورنيا) وكاتب وناقد للعمارة، وقد ألف أكثر من 50 كتابًا منذ أن بدأ الكتابة في مدينة كلية العمارة في جامعة الملك فيصل. يقول لي إنه غادر إلى القاهرة في أول إجازة له بعد أن لاحظ اهتمام الجميع بحسن فتحي، وقرر منذ تلك اللحظة أن يكتب كتابًا عن هذا المعماري، وهكذا بدأ عشقه للعمارة العربية التاريخية والمعاصرة، وهكذا بدأت مهنته الجديدة كاتبًا، التي لم يخطط لها في يوم. في اعتقادي أن هناك كثيرين مثل جيمس ستيل بدأوا وانطلقوا من جامعاتنا، وتشكلت مفاصل فكرية مهمة في حياتهم المهنية، أعقبت وجودهم في المملكة، وأنا هنا، دون شك، أثير علامات استفهام كبيرة حول عدم استمرار هؤلاء عندنا. بالنسبة لي أعتقد أن الجامعة السعودية قد تكون لديها القدرة على توليد الأفكار، لكن ليست لديها قدرة على احتضانها وتنميتها؛ (لأن الاحتضان يتطلب بيئة إدارية تنافسية ذات رؤية واضحة، وهذا غير متوافر في الجامعة). ولعل هذا ما يجعل كثيرًا من المتميزين يحجمون عن العمل في الجامعة السعودية، التي كانت تحتضهم في بداياتهم في السبعينيات والثمانينيات، والتي سرعان ما تراجعت بشكل واضح بعد ذلك.