كما ذكرت في مقال سابق بعنوان "التحولات الثقافية وتأثيرها في سلوك الإنسان" فإن صغار السن قد يتعرضون في وقت مبكر من مرحلة الطفولة إلى جرعة زائدة من مصطلحات وعبارات مشتقة من ثقافة اجتماعية معينة يتشرب بها الصبية من خلال حثهم على التواجد في مجالس يحضرها الكبار ويتبادلون فيها أطراف الحديث وشرب القهوة العربية. وفي الحقيقة أن هذه المجالس الثقافية التقليدية لم تكن تخلو من وجود الصغار واليافعين حيث يلعب ويلهو هؤلاء الصبية بالقرب من هذه المجالس ويستمعون فيها إلى قصص الغزو والمعارك والثورات وغير ذلك مما يدور ويطرح من قضايا في تلك المجالس. يجد الصبية في تلك المجالس نوعا من التشجيع على دخول المجلس مبكرا للاطلاع على تقاليده وطقوسه ورواياته وأبطاله ما يجعل الصبية يقفون على مشارف واقع ثقافي تم فرضه عيهم كشرط مسبق لكسب احترام وتقدير صانعي القرار في تلك المجالس الأدبية والديوانيات التقليدية حيث يتفاخر الكبار بدخول أبنائهم في دهاليز هذه المجالس والاستماع إلى خطابها الشديد في نبرته من حيث عدم القبول بالمصالحة والأخذ بالثأر واللجوء إلى القوة البدنية في استرداد الحقوق والحصول على الغنائم، وما إلى ذلك. وهو خطاب كان يتصف بالحدة في تناوله لطرح قضايا اجتماعية والتعامل معها بما يقتضيه الموقف دون الأخذ بعين الاعتبار انعكاسات خطاب المجلس على قدرات عقل الطفل بما يشبه الصدمة الناتجة عن تلقي مفهوم تربوي لا يتناسب مع قدرات العقل التفاعلية لمرحلة عمرية معينة. كان ذلك يحدث في الماضي البعيد ولكنه اليوم - في ظل التوعية والحراك العلمي والتربوي - يختفي تقريبا دون أن يتبدد بشكل كامل. ولعل من المناسب هنا أن أذكر بعض الأمثلة الحية على موضوع تلقي بعض الأطفال لنظريات محفزة للانقلاب على طبيعة الناشئين التي تميل إلى الهدوء والمصالحة والتسامح مع الآخر. وكانت هذه المفاهيم تقدم لهم في المجالس على طبق من فضة حيث يتغذى الطفل بكم هائل من المفردات الثقافية المزعزعة لمستوى الفكر إلى الحد الذي يصل إلى درجة النزعة نحو تطبيق هذه المفاهيم والمصطلحات التي تنمو مع الأطفال سنة بعد سنة. ولمزيد من الأمثلة، فإني أتذكر قبل سنوات طويلة حينما كنت أناقش أحد الشباب الصغار وقد قرر آنذاك ترك الدراسة مبكرا والاتجاه للبحث عن العمل في مجال التجنيد العسكري، فبادرته بالسؤال عن سبب دخوله لمجالات العمل قبل إكمال الدراسة، لاسيما وأنه من الطلاب المتفوقين دراسيا، فأجابني بسرعة وبكل عفوية: "حتى أكون رجلا وأعتمد على نفسي"، فحاولت أن أوضح له بأنه أيضا رجل وهو على مقاعد الدراسة، وأن الخيار الأفضل هو العودة إلى المدرسة، لكنه لم يأبه لما قلت ومضى في طريقه، وفي سياق الحوار مع هذا الشاب اليافع تذكرت عبارة تقال باللهجة العامية وكنا نسمعها نحن في المجالس باستمرار وتكرار، ألا وهي كلمة "خلك رجال".