إن القوة الناعمة في عالم اليوم تعني السعي لتحسين صورة بلد ما من خلال تكريس طبيعة التأثير الفكري والثقافي والإعلامي، ما يعزز نفوذ هذا البلد أو ذاك في الخارج.. التخلي عن القوة الصلبة وتفعيل القوة الناعمة مطلب قديم ما زال قائماً، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والعالم ينادي بالتعايش السلمي وتلاقح الثقافات، القوة الناعمة كمصطلح انبثق من التأثير الروحي والإقناع المعنوي المتجسدين في الأديان والقيم الإنسانية والأيديولوجيات. غير أن القوة الناعمة في عالم اليوم تعني السعي لتحسين صورة بلد ما من خلال تكريس طبيعة التأثير الفكري والثقافي والإعلامي، ما يعزز نفوذ هذا البلد أو ذاك في الخارج. خلال الخمسينات والستينات ومع بروز الحرب الباردة آنذاك بين المعسكرين الشرقي والغربي، شاع مفهومه واستخدامه خاصة كأداة في السياسة الخارجية، كان الاتحاد السوفيتي وقتها يروّج العدالة ورخاء الدولة في حين أن أميركا كرست ترويج الحلم الأميركي ورفاهية الإنسان. فلاسفة الصين كانوا أول من طالب باستخدام القوة الناعمة لتعزيز السلطة السياسية وكانت هاجس المفكرين والبرلمانيين والساسة في العقود الماضية، كانوا يؤمنون أنها السلاح الأقوى، ومنهم الأب الروحي لهذا المصطلح السيناتور الأميركي جيمس فأولبرايت الذي قال في كتاباته: إن أميركا تستطيع أن تكون قدوة للعالم ليس باستخدام القوة العسكرية، وإنما بترويج القيم الثقافية والإنسانية وحقوق الإنسان. القوة الصلبة أو التهديدات العسكرية رغم تأثيرها لم تعد في وقتنا الراهن الأداة الأكثر فاعلية للنفوذ والسيطرة، بل بزتها أدوات أخرى من إعلام جديد وفنون وثقافة وإنجازات معرفة. جاء التحول فكرياً بمعنى أن استخدام القوة الصلبة كالاحتلال العسكري أو العقوبات الاقتصادية لم يعدا رائجان كوسيلة نفوذ مقبولة من الشعوب، أصبحت القوة الناعمة كبديل للقوة الصلبة لها نفس التأثير وربما أكثر تسيطر على العقول دون أن تشعر بتلك الهيمنة، الاختلاف الجوهري بينهما هو في القدرة على التأثير عن طريق الاستمالة والترغيب لا الإجبار والترهيب، وهنا يكمن الفارق وبامتياز. المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي طرح من خلال مؤلفه (دفاتر السجن) نظرية الهيمنة الثقافية، أهم ما أشار إليه في نظريته أن «الرأسمالية يمكن لها الهيمنة ليس فقط بالسلطة والمال بل بالقبول الذي تشكله الطبقة الحاكمة في عقول الناس عبر تفعيل أدوات متعددة من وسائل إعلام ومؤسسات بحثية وفكرية». ومع ذلك يبقى الأميركي الأكاديمي جوزيف ناي هو أول من صاغ هذا المفهوم في التسعينات من القرن الماضي كنظرية مشيراً إلى أن وسيلة النجاح في السياسة الدولية باستخدام القوة الناعمة تعني «القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال» بعبارة أخرى ووفق رؤيته أنها تعني «قدرة دولة معينة على التأثير في دول أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدلاً من الاعتماد على الإكراه أو التهديد». البعض انتقد هذا المفهوم لعمومتيه وصعوبة تحديد آثاره ما دفعه إلى تطوير المصطلح إلى القوة الذكية وهي عبارة عن مزيج بين القوتين الصلبة والناعمة، وهذا موضوع آخر. على أي حال بات استخدام أدوات دبلوماسية وثقافية في إدارة العلاقات الدولية أمراً حتمياً ومهماً في المواجهة لاسيما أننا لم نعرها اهتماماً كما ينبغي. توظيف المفهوم لصالح بلادنا ضرورة وليست ترفاً، مقومات بل وعشرات من العوامل والعناصر والمغريات لم نحسن استخدامها ولعل بعضها مصدر إلهام روحي وبعضها إرث حضاري وثقافي وتراثي وفنون وغيرها مما ينتج عنها شبكة علاقات وقنوات تواصل وحيز تأثير ولكننا لم نوظفها بالطريقة المناسبة. التحديات والحملات التي تواجهها بلادنا بحاجة إلى تغيير الصورة النمطية وأسلوب جاذبية عبر خطاب ثقافي وإعلامي يعكس مخزونها الحضاري ويستعرض تراكماتها التاريخية وموروثها. هناك حاجة لإعادة النظر في أداء مؤسساتنا الثقافية المتعددة التي تعمل وفق أسلوب الجزر المنفصلة، مع أنه يفترض أن تكون منظومة متسلسلة ومتناغمة. في ظل مواجهة التحديات ودقة المرحلة والتموضع الجديد للنظام العالمي فأن الأمر يتطلب إيجاد وسائل أخرى للنفوذ والاختراق والمواجهة، ولا يوجد في الذهن أفضل من الوصول للأهداف سوى عن طريق الجاذبية وتوظيف ما لديك، وبلادنا بما تملك قادرة على ذلك.