إذا كانت القوة الناعمة تقابل القوة القاسية (الحرب العسكرية المباشرة)، كأسلوبين يكملان بعضهما بعضاً، فالقوة الناعمة أخطر وأدهى وأمر وأنجع، ذلك أنها حرب غير معلنة، لكنها ضروس، ظاهرها فيه الرحمة لكن من قبلها يأتي العذاب كله.ومفهوم (القوة الناعمة) ليس جديداً، وهو معمول به على مر تاريخ حرب المستعمرين على الأمة ودينها، لكن الجديد فيه هو أنه أخذ يستعمل أدوات كثيرة متنوعة ومبدعة، لم تكن متوفرة قبل الحرب العالمية الثانية. وهكذا فمصطلح (القوة الناعمة) أو القوة اللينة الذي تحدث عنه جوزيف ناي (أستاذ جامعة هارفارد ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني ومساعد وزير الدفاع الأمريكي في عهد إدارة كلينتون) ودعا إليه ابتداء من 1990 وإلى اليوم، إنما يعبر عن سياسة ليست مستحدثة. لقد رأى جوزيف ناي أن قوة أمريكا العسكرية الغاشمة، وهيمنتها الاقتصادية البشعة، لم تعد تكفي كسبل في الهيمنة والسيطرة، بل تسيء كثيراً لصورتها، وتشكل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولذلك دعاها إلى استخدام أدوات ووسائل وأساليب مستترة، ماكرة، غير مباشرة سماها "القوة الناعمة" في الترويج والترغيب لسياساتها، حتى تحقق ما تريد من أهدافها الاستعمارية. فجاءت رسالته تقول: يمكن لأمريكا أن تحصل على النتائج التي تريدها في العالم (خصوصاً في بلاد المسلمين) وأن تبقى مهيمنة، إذا هي انتبهت لقوتها اللينة في سياستها تجاهه، إضافة إلى قوتها العسكرية كلما لزم. فالرجل يريد من أمريكا أن تظهر براعة كبيرة في ممارسة القوة الناعمة، كما أظهرت ممارستها للقوة الصلبة لكسب حروبها. ويعرف جوزيف ناي (القوة الناعمة) بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد، عن طريق الجاذبية، بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال." ويضيف "القوة الناعمة هي القدرة على الحصول على ما تريده، باجتذاب الطرف الآخر، وليس إكراهه، أو دفع ثمن القوة الصلبة، ومعرفة كيفية الجمع بين أدوات القوة الصلبة والناعمة في قوة ذكية." وبذلك نرى أن (القوة الناعمة) عبارة يستخدمها الأستاذ لوصف أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، التي يمكن أن تستخدمها للتأثير على سلوك أو مصالح الكيانات السياسية الأخرى، من السبل الثقافية أو الأيديولوجية، بخلاف مفهوم القوة الخشنة، التي غالباً ما تجد ترجمتها العسكرية بالحرب المباشرة. ولا شك أن إدارة كلينتون - في التسعينات - استفادت كثيراً من سياسة القوة الناعمة هذه، ولذلك عرفت سياستها حينئذ ب(سياسة الوفاق) على عكس إدارة بوش الابن (والمحافظين الجدد)، التي فضلت سياسات مكشوفة في حربها وتعالت حتى على حلفائها في أوروبا، ما جعلها تخسر كثيراً حول العالم. يقول ناي في ذلك "أعتقد أن سياسة بوش تركت الولاياتالمتحدة أضعف، فغزو العراق كان خطأ استراتيجياً فادحاً، خفض من قوة أمريكا الناعمة في العالم الإسلامي، ولم يعزز لنا مزايا في الطاقة أو منافع جيوسياسية." ويمكن تلخيص أفكار سياسة القوة الناعمة (والتي كشف عنها جوزيف ونظر لها) الخطيرة، والتي تتبناها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في فرض هيمنتها وباتفاق كامل على صحتها وأهميتها، وبنسب متفاوتة في التطبيق بالتالية: 1. إن الشكل العسكري الأمريكي ينجز كثيراً من الأهداف، ولكنه لا يجب أن يكون الوحيد. 2. القوة الناعمة لا تعني الإقناع، فهي أكثر من الإقناع والبرهنة بالجدل على صحة الفكر والسياسات، تعتمد الترغيب والجذب والإغراء، الذي يؤدي إلى التقليد والرضوخ. 3. إن فرض ثقافة أمريكا كثقافة عالمية (العولمة)، وقدرتها على وضع قواعد مفضلة، ومؤسسات تحكم مناطق النشاط الدولي ، هي مصادر حاسمة للقوة، كقيم الديمقراطية، والحرية، والتطور السريع، والمؤسساتية، والانفتاح، وهذا ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، في غير مناسبة. تقول كلينتون "إن الولاياتالمتحدة ينبغي أن تستخدم ما يطلق عليه (القوة الذكية)، وهي جميع الأدوات المتاحة لدينا،" والتي تشمل الدبلوماسية، والاقتصاد، والقوة المسلحة، والقانون، والثقافة. وتقول أيضاً "في ظل القوة الذكية، ستكون الدبلوماسية في مقدمة سياستنا الخارجية،" وتضيف أن هذا "يتطلب التواصل مع الأصدقاء، والمعارضين، لتعزيز تحالفات قديمة، وإقامة تحالفات جديدة." 6. إن أسلحة الحرب الدموية باهظة التكاليف على أمريكا، مقابل ما يمكن أن تقوم به أدوات القوة الناعمة. فأمريكا - بحسب جوزيف ناي- تنفق 17 ضعفاً من المال، على حروبها، على ما تنفقه على أعمالها الناعمة.