لا يعرف ما يعنيه أثر العقوبات الأميركية مواطنو بلد يتمتع بعلاقات عالمية صحية وسجل مالي وأمني لا تشوبه شائبة يمكنّه من الانفتاح على مختلف الفعاليات الاقتصادية العالمية والاستفادة منها. في العام 2018، جرب الشعب التركي غير معتاد على هذه الظاهرة -العقوبات الأميركية- إذ ضربت وزارة الخزانة الأميركية تركيا ببضعة عقوبات لا تكاد تشكل جزءا بالمئة مما ضرب إيران من عقوبات اقتصادية في السنة الأخيرة، ورغم ذلك انقلب الاقتصاد التركي بسبب تلك العقوبات رأساً على عقب وانهارت الليرة التركية لينتهي الأمر بتنازلات تركية لإلغاء العقوبات، التي ورغم إلغائها ضربت تركيا بعمق سياسي واقتصادي وسياحي. ما واجهته إيران من عقوبات وصف على أنه "أقسى حزمة عقوبات في التاريخ تطبقها أميركا على بلد ما"، إلا أن هذا البلد كان الذي بدأ عهده باحتلال السفارة الأميركية وأخذ الأميركيين كرهائن فيها، تحت شعار عمره أكثر من 40 سنة وهو "الموت لأميركا". قبل العام 2015، كانت إيران قابعة تحت وطأة عقوبات شديدة ولكنها أخف مما تواجهه الآن، عقوبات تؤثر في كل تفاصيل حياة الإيرانيين وحكامهم حيث كل قطاعات الدولة منهارة اقتصادياً. في ذلك العهد ظهر الرئيس أوباما وأراد إنهاء الخطر باحتمال حصول إيران على سلاح نووي، وبوساطات أوروبية وتدخلات من عدة قوى إقليمية وافقت إيران على الانصياع لاتفاق "أميركي" بدفع من "روحاني" الذي أقنع المتشددين بفتح المنشآت الإيرانية النووية أمام المراقبين والمفتشين الدوليين وكشف الأوراق النووية في سبيل التخلص من الضائقة الاقتصادية، فكان الاتفاق النووي للعام 2015 ورفع العقوبات عن إيران في عهد أوباما. يؤكد الشركاء الأوروبون في الاتفاق النووي للعام 2015، كما يؤكد الديموقراطيون في أميركا أن إيران لم تنتهك اتفاق العام 2015 على صعيد تطوير برنامجها النووي، إلا أن ادارة الرئيس ترمب جاءت بفكرة أنها لا ترى في الاتفاق للعام 2015، اتفاقاً عادلاً لأميركا وشركائها في المنطقة وخاصة لأن الاتفاق لم يشمل سلوك إيران الإرهابي عبر الميليشيات وبرنامجها للصواريخ الباليستية، فقامت الإدارة بالخروج من الاتفاق وتطبيق عقوبات صارمة يصفها المحللون بأنها كانت تأخذ إيران إلى الانهيار الكامل خاصة بعد أن قطعت أميركا أي إمكانية لبيع أي برميل من النفط الإيراني ثم معاقبة قطاع البتروكيماويات أي أن ايران فقدت أكثر من 90 % من دخلها الوطني ودخلت مرحلة اقتصادية مظلمة للغاية لتترافق هذه المرحلة مع شقاق داخلي حاد في صفوف النظام الإيراني. من وجهة نظر المتشددين في إيران، فإن نظام الملالي لم يرتكب أي خطأ، فهو قبل على مضض الجلوس إلى طاولة مفاوضات مع أميركا في العام 2015 تفتح أسرار إيران أمام المراقبين، أما الإرهاب في سورية واليمن والعراق ولبنان وبرنامج الصواريخ الباليستية فيرى المتشددون في النظام الإيراني أنها أشياء لم تكن مشمولة أصلاً في الاتفاق النووي وبالتالي أميركا هي من خانت العهود والمواثيق مع إيران التي أقنعها روحاني بأن الرضوخ عبر الاتفاق النووي سينقذ اقتصادها، إلا أن وصول ترمب والعقوبات الأقسى في التاريخ فعلت العكس وأخذت اقتصاد إيران رغم تنازلها عن سرية برنامجها النووي إلى أكثر مراحله تهاوياً في التاريخ. إسقاط إيران الأخير للطائرة الأميركية المسيرة، واستهدافها لمنشآت نفطية في المنطقة وتعريضها طرق الملاحة للمخاطر كانت رسائل مباشرة للولايات المتحدة الأميركية بأن إيران لا تملك ما تخسره، وباتت مستعدة لأقصى تصعيد والهدف مفاوضات تخفف شيئا من العقوبات عن إيران التي لم يعد اقتصادها يحتمل أي عقوبات لدرجة أنها ترى في استدراج أميركا للحرب متنفسها الأخير. كان هذا المشهد الاستعراضي الإيراني مترافقاً مع فهم إيران لطبيعة استراتيجية ترمب التي كانت واضحة منذ بدايتها بأنها لا تسعى لحرب "تغيير أنظمة" وبالتالي عولت إيران على محاولة إجبار إدارة ترمب في الوقت المتبقي للانتخابات الرئاسية الثانية وهو حوالي السنة لانتزاع اتفاق نووي ثاني يزيل العقوبات، في ظل تأكد المراقبين في طهران من أن آخر ما يريده الرئيس ترمب وناخبيه هو حرب شاملة. إدارة ترمب وتحديداً شخص ترمب الذي تجاهل في النهاية خيارات بومبيو وبولتون بتوجيه ضربات عنيفة ضد النظام الإيراني كانت واضحة منذ بداية صعوده كمرشح للحزب الجمهوري، فأكثر ما يكرهه ترمب في النظام السياسي الأميركي إلى جانب اوباما وهيلاري كلينتون، هما جون ماكين وجورج بوش الأب، الجمهوريين أيضاً ولكن المنتمين للمحافظين الجدد والمؤمنين بوجوب قيام أميركا بإحداث التغيير في العالم بالقوة العسكرية، الأمر الذي يعارض تماماً مبادئ ترمب الانعزالية الذي حصل على سيل من المؤيدين في أميركا التي باتت خياراتها بعد الحرب سيئة السمعة في العراق، خيارات انعزالية سواء من اليسار (أوباما)، أو من اليمين (ترمب)، فما يجمع بين الرجلين رغم تناقضاتهم واختلاف وجهات النظر، عدم رغبة الرئيسين بسياسات خارجية متوغلة عسكرياً في حروب طويلة الأمد. لماذا لم يوجه ترمب حتى ضربة مخففة؟ بدأت التهديدات الإيرانية الأكثر تصعيداً في ال40 يوما الأخيرة بعد عدة تطورات أولها كان فشل الأوروبيين في اجتماعات بروكسل في حل مشكلة العقوبات على إيران، إذ بقيت كل القطاعات الأوروبية ملتزمة بالعقوبات الأميركية وفشلت الوعود الأوروبية بإيجاد منظومة تخرج إيران من العقوبات. كانت هذه الحادثة مترافقة مع إزالة واشنطن كل الاستثناءات لمشتري النفط الإيراني بالإضافة إلى العقوبات على البتروكيماويات أي أن إيران فقدت كل مواردها وبات العمال في شوارع إيران دون عمل ودون مرتبات لأكثر من سنة فبحسب راديو فأردا المراقب للوضع في إيران، بعد أبريل 2019، استيقظ الإيرانيون على نسب تضخم متضاعفة فأسعار أي مادة في إيران ارتفعت بنسبة 85% في غضون أيام بعد تصفير صادرات النفط الإيراني، وبات النظام في إيران يواجه إلى جانب العقوبات سيل من التحديات الداخلية من انعدام ثقة شعبية بالنظام وتبادل اتهامات بين متشددين ومعتدلين وشعب جائع استفاق فجأة ليرى السلعة التي كان ثمنها دولارا واحدا، 85 دولارا. أمام هذا الضغط اختار نظام "الموت لأميركا" العودة إلى تطبيق شعاراته علانية لتجميع الداخل حوله أمام أي اعتداء خارجي وتوحيد جبهة النظام الداخلية الأمر المتوقع حدوثه فيما لم كان هناك اعتداء أميركي ضد إيران كبلد، وأمام كل هذا الانهيار الاقتصادي الذي يقود الدولة إلى انهيار حتمي، كان النظام الإيراني مستعد للرد على أي تصعيد أميركي أو أي ضربة مخففة بجر أميركا ورئيسها المقبل على انتخابات جديدة إلى حرب شاملة تشعل المنطقة، حيث تلقت واشنطن معلومات كافية بأن ميليشيات إيران ستتحرك وأن إيران في الداخل ستصعد لتنتقم لنظامها من ترمب بعد سنة من العقوبات القاسية التي أوصلت النظام إلى أسوأ أوقاته، هذا ما دفع الرئيس ترمب إلى محاكمة أدت الى عدوله عن توجيه ضربة أمن أنها ستجر المنطقة إلى فوضى كبيرة لن تكون إيران -الخاسرة أصلاً- الخاسر الوحيد منها بأي حال. الدافع الأساسي لكل هذا العنف والاستفزاز الايراني هو جر واشنطن إلى ازالة العقوبات، الخطر الحقيقي الذي يوجع النظام الإيراني في كل يوم أكثر من ضربة عسكرية ستضع طهران في موضع الضحية أمام شعبها والعالم المشكك بترمب. كل الإشارات الإيرانية الأخيرة تستجدي جر أميركا إلى حرب تشعل المنطقة وتؤدي إلى اقتصادات منهارة في كل مكان، أو إجبار واشنطن على إلغاء العقوبات أو تخفيفها أو إيجاد أي حل يؤدي الى متنفس اقتصادي للنظام المنهار. حتى الآن تصمد الإدارة الأميركية في مواجهة الاستفزازين، وحتى اللحظة لا يزال الاقتصاد الإيراني ينزف وهو أمر أكثر تأثيراً من حرب نارية ضد إيران قد تؤدي إلى خراب المنطقة. تبقى السنة المتبقية للانتخابات الأميركية وقت ضائع تحاول الإدارة الأميركية إضاعته أكثر، ففي هذه السنة الرئيس ترمب مقيّد بالانتخابات ومقيد بما وعد به ناخبيه بأنه سيسحب القوات من الحروب طويلة الأمد في الشرق الأوسط إذ سحبها بالفعل من أطول حروب أميركا في التاريخ في (أفغانستان)، وسحب بعضها من (سورية)، ولكن من جانب آخر إيران متحرّقة لمفاوضات أخرى تتنازل فيها أميركا عن بعض شروطها لترتفع العقوبات عن إيران، ولكن هذا يعني اتفاق نووي آخر مع إيران يتجاهل شروط أميركا الأخرى المتعلقة بسلوك النظام، أي اتفاق شبيه بما فعله أوباما في العام 2015، وهذا أيضاً ما يحاول ترمب تجنبه والهرب منه حتى النهاية وعلى الأقل حتى انتخابات الرئاسة 2020 كما يتجنب الحرب. بعد انتخابات 2020، إذا فاز ترمب سيصبح أكثر حرية في خياراته، فإما سيوجه ضربة قاضية تنتقم من إيران لاستغلالها لموقفه السياسي، أو سيذهب لعقد صفقة نووية تشبه ما وقعته إدارة أوباما مع إيران ولكن هذه المرة تحت مسمى آخر وهو أمر مستبعد. إلا أن ما تفعله إيران اليوم من اختيار الحرب والتصعيد والنار الشاملة ما هو إلا دليل على أنها تحترق في تلك النار وتريد أن يحترق الجميع معها.