المسرح يتفرد عن كل صنوف الفنون بخاصية (هنا، والآن) حيث لا توجد إلا في المسرح وحده- بمعنى آنية الحدث - ومع ذلك لم نعطه حقه فأصبح في أيدي الاسترزاق وأكل عيش وتلك كارثة تسربت إلى وهن الدراما بشكل عام.. في الأيام الزاخرة بفرحة العيد وبهجته، تنوعت العروض المسرحية في كل أنحاء الوطن العربي توازياً مع احتفالات العيد. وبما أن الدراما التليفزيونية في شهر رمضان قد أصابها الكساح المفصلي أو قل كما قال أستاذ الدراما بأكاديمية الفنون نقص كالسيوم في العظم الدرامي وهذا أفضل تعليق سمعته عن دراما رمضان، وبما أن دراما المسرح والسينما والتلفزيون جميعها ترتكز على حرفية الكتابة فقد أعلن الكاتب عن وهنه وقلة حيلته! دائماً وأبداً نصنف المسرح بأنه أبو الفنون وهذا حقه ووضعه ومركزه، لكن حينما يتحول المسرح إلى أكل عيش فتلك كارثة، وهناك مقولة مأثورة تقول إن الحرة لا تأكل بثدييها، ونحن نقول إن المسرح لا يأكل بأبنائه! ولكن على ما يبدو أن ظاهرة الاسترزاق قد طالت المسرح والمسرح حر فإذا ما أكل بأبنائه فقد حريته التي يستقي منها وجوده. قد سبق وكتبت في مقالات سابقة أن المسرح حينما يكون أسير شباك التذاكر هلك وهلك من معه فهو يأبى الفشل بمفرده وإنما يجر معه كل من عمل فيه ومعه لأنه الفن الوحيد الذي يرتكن على العمل الجماعي، فهو ليس فناً فردياً على الإطلاق بل يأخذ سمته من خاصية اللعب الحر في الفضاءات الرحبة دون شروط أو قيود حتى لو كان قيده المال، حينما يكون هو تلك الأسطورة الإغريقية (طائر الفينيكس) الذي إذا ما داهمه الموت أحرق ليحيا من جديد! فهل سيحيا المسرح من جديد بعدما شاهدنا العشرات من العروض التي كلما سألت عن ضعفها وتدني مستواها يُسارع لي بالرد: (أكل عيش) فهل أصبح المسرح أكل عيش، وإن كان ذلك كذلك فنحن نتاجر بتاريخ وبحضارة وبفلسفة وأيضاً نتاجر بوجدان المتفرج، لأن خطورة المسرح أنه يبني، لكنه يهدم إذا ما أفسدنا محتواه وفرجته ومتعته بل وكلمته التي يقولها من منصة الوجدان والمتعة. ينتابني الحزن عندما أتذكر أعمالاً مسرحية خلدت وتدارسناها ولا يزال الدارسون يتدارسونها مثل المسرحية الكويتية "باي باي لندن" للفنان حسين عبدالرضا -رحمه الله- أو المسرحية المصرية "الخديوي" لفاروق جويدة بطولة محمود ياسين وسميحة أيوب أشرف عبدالغفور، وحتى قريب مسرحية "الملك لير" للفنان يحيى الفخراني والعديد من الأعمال المسرحية اللبنانية الاستعراضية للفنانة فيروز والفنان دريد لحام وحتى مسرحية "الزعيم" للفنان عادل إمام ثم مسرحية "ماما أمريكا" للفنان محمد صبحي وغير ذلك من العروض المسرحية التي تأخذ من اسمها خلوداً في الزمن. إذا المسرح العربي شامخ يلد كل يوم رجلاً مسرحياً فذاً مبدعاً فلسنا متشائمين على الإطلاق، ولكن حينما يقدر أو قل يقتر على المسرح رزقه فبطبيعة الحال سيتحول إلى (أكل عيش) وإلى الاسترزاق إن جاز لنا التعبير، ذلك أن المسرح أبداً لا يقل في ميزانياته وفي تكاليفه عن الفيلم السينمائي أو المسلسل التلفزيوني، فإذا ما كانت ميزانية الفيلم عشرون وثلاثون مليوناً وكذلك المسلسل فكيف ننفق على المسرح عشرين وثلاثين ألفاً أو حتى نصف مليون إن أكرمناه! ثم نطلب أن يكون على ذات الذائقة والطعم والرائحة؟! كان أحد المهتمين بالمسرح يسألني عن أزمة المسرح في وطننا العربي، قلت له: أعطني ميزانية مسلسل 50 مليوناً وأنا أتعهد لك أن يكون لدينا شارع برودواي للمسرح – ذلك الشارع الزاخر بالمسارح التي يستمر عرضها عشرات السنين بل تشد الرحال لمشاهدتها؛ فالمسرح إبهار، وكتابة، وعمالقة تمثيل، وخدع بصرية وهولوجرام ومخرجون دارسون متمرسون على صناعة المتعة والفرجة والإبهار، وكل هؤلاء له محترفين عمالقة في مجالهم لكنهم وجدوا ضالتهم في السينما والتلفزيون ومع من يدفع أكثر ذلك لأنها مهنتهم وتخصصهم الذي أفنوا أعمارهم فيه ومن هنا نعرف أن (مربط الفرس) هو شباك التذاكر وشباك لا يفتح جيبه للضعفاء والمدعين والمتثاقفين، فالجمهور ذكي وذواق ومثقف، ولم تعد تنطلي عليه اللعبة! قد يعاجلني القارئ أن هناك عروضاً ناجحة وجيدة منخفضة التكاليف، لكنني أقول إن (لكل مقام مقال ولكل حال لبوسها) كما يقال، فهذا الزمن المنفتح على العالم بتقنياته السينمائية والمسرحية وحتى التلفزيونية أخرج لنا متفرجاً له ذائقة بصرية أكثر منها سمعية فأصبح لزاماً علينا النهوض بالصورة في المسرح وتلك مدرسة لها الكثير من المتطلبات. المسرح يتفرد عن كل صنوف الفنون بخاصية (هنا، والآن) حيث لا توجد إلا في المسرح وحده –بمعنى آنية الحدث- ومع ذلك لم نعطه حقه فأصبح في أيدي الاسترزاق وأكل عيش وتلك كارثة تسربت إلى وهن الدراما بشكل عام فالمسرح أبو الفنون إذا ما نهض نهضت الدراما بكل صنوفها وإذا ما تردى تهاوت الدراما، وهذا ما حدث بالفعل!