ولم يمض أسبوع واحد حتى أمر سمو ولي العهد محمد بن سلمان -حفظه الله- بدعم سخي لحفظ التراث العمراني السعودي والذي يعبر عن مرحلة غائرة في التاريخ والذي تم تسجيله ضمن قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو، لقد كان دعماً سخياً بمبلغ 50 مليون ريال سعودي. شكرا لكل من يعرف قيمة كل حجر وشجر وكل حبة رمل تتشكل باللون الأخضر فوق علم بلادي، شكرا لكل مهموم حمل فكرة القيمة، ليحتفظ بها إرثا جماعيا وتاريخيا تشكَّل منه تاريخ الإنسانية، وشكرا لكل من عرف طوفان الفكر الجديد الذي يحمل في طياته فكرة هدم التاريخ، وهدم التراث كفكر فلسفي وضع بذرته الأولى جون درايدن وفوكو وغيرهم من رواد التفكيكية، ثم تسرب إلى مدارات سياسية وفلسفية تغير وجه العالم. من منا يتذكر نظرية موت المؤلف، وهي في عجالة تهتم بهدم النص وإعادة بنائه برؤية جديدة فهي ذاتها بذرة هدم التاريخ، ثم تبعها في ذات النظرية محور هدم التاريخ بشكل صريح، فالتاريخ من وجهة نظر هؤلاء المنظرين ليس بمقدس. ومن هنا وفي الآونة الأخير -وبحسب تسرب هذه الآراء الفلسفية إلى مداراتها الأوسع- وجدنا هدم التاريخ يجتاح معظم تاريخنا العربي ومحوه من الوجود تمهيدا لما يسمى بالعولمة! فهذا هو التاريخ العربي يتعرض للتدمير في متاحف العراق وآثارها، ثم وجدنا أن هناك قصد مقصود لتدمير كل الآثار والتراث في حلب وفي حمص وفي حماة وفي اليمن، حتى في مصر كان المستهدف أثناء ثورة 25 يناير هو التاريخ والتراث فأُحرق المجمع العلمي، وتعرضت المتاحف للسطو والنهب، فاستُهدف التراث في كل مكان يحمل سمة التاريخ العربي. ألم يحن الوقت أن نربط بين ماهو عولمي تفكيكي وبين هدم التراث وهو أحد محاور العولمة؟! فإذا ما نظرنا إلى مصطلح العولمة الفلسفي والمكون للوعي الذاتي الآني، لوجدناه يحمل معنى (الإنسان والعالم) ومن الخطأ -الذي يقع فيه الكثير- الخلط بين العولمة والعالمية، فالفرق بينهما كبير، والخلط بينهما مجحف. العالمية أمر مطلوب ومهم فيها من تمازج الحضارات والمفاهيم والعلوم ماهو مهم وبناء، أما العولمة في من وجهة نظري (الإنسان والعالم) أي اندماج الإنسان كفرد في العالم بلا حدود وبلا هوية بمعنى انتمائه للعالم فقط والعالم وهو تاريخه وأصله وفصله وأهله وسنده ألخ... بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت لنا فلسفة اللا منتمي. وهي أن الإنسان يأخذ موقفا من العالم فهو ضده وهذا واضح في كتاب (اللا منتمي ) ل(كولن ويلسون) ولكن بعد ظهور نظرية التفكيكية بمعناها الفلسفي ظهر لنا (الإنسان المنتمي) أي الإنسان المنتمي إلى العالم، وليس لأي شيء آخر، وهي عكس ما كان قد طرحه كولن ويلسون في كتابه ( اللا منتمي)! ولذا ظهرت لنا نزعات ما يسمى بحقوق الإنسان التي تدافع عن ذلك الإنسان المنتمي للعالم!. ولذا كان محو الحدود بقصد العولمة بكل مستوياتها الاقتصادية والفلسفية والسياسية تصب في هذا الوعاء، ولذا كان هذا القلق الدائم لدينا على هويتنا وتراثنا ولذلك كانت جائزة باديب للهوية العربية والوطنية بقصد الحفاظ على شبابنا من تسرب هذا الفكر الماحي للتاريخ إن صح التعبير. في الآونة الأخيرة أستشعر الكثير من ذلك الخطر المحيط بمدينة جدة القديمة وتهالك مبانيها التراثية حتى انبرى أحد رجال الأعمال في طرح فكرة إنشاء مشروع ضخم كمدينة سياحية تحمل كل سمات مدينة جدة القديمة بكل تفاصيلها، واستحضرنا خبراء بسمة عالمية كبيرة للتصميم والاستشارة، إلا أن المشروع كان ضخما وباهظ التكاليف، لا يمكن أن يتحمله رجل بمفرده بالرغم من براعة التصميمات بشكل مبهر وعلى مستوى عالمي كبير! ولكننا كنا وما نزال نستشعر الخطر على تراثنا وتاريخنا الذي يحمل سمات جيناتنا وهويتنا فلم يكن مشروعي الجديد (موسوعة الجزيرة العربية المكان.. والإنسان) إلا نتاج هذا القلق الدائم ولذا كان هذا المشروع هو تسجيل وتفسير لكل تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها موثقا بما يقرب من 200 صورة وثائقية؛ ذلك لتدوين وتفسير كل ماتحاول العولمة محوه وهدمه عن الشخصية العربية. ثم كتب الأستاذ زين العابدين أمين - وهو كان حاضرا للنقاش السالف ذكرهم بين الخبراء - مقاله قبل الماضِي في جريدة البلاد فيقول: (تذكرت حوارا كان دائرا بين مجموعة من الخبراء العالميين ومحاولة الإجابة على سؤال مهم.. هل نعيد بناء المباني التاريخية المهدمة صورة طبق الأصل عن الماضي؟! أم نمزج الماضي بالحاضر والمستقبل ونعيد البناء بأن نحافظ على ما تبقى كما هو بتفاصيله ونكمل ما تهدم برؤية مستقبلية من حيث التصاميم ومواد البناء؟) . ذلك أن مدينة جدة القديمة تراث زاخر كبوابة تاريخية لزوار بيت الله الحرام على مدار التاريخ وهذا مهم للغاية ومن المهم الحفاظ عليه. ولم يمض أسبوع واحد حتى أمر سمو ولي العهد محمد بن سلمان -حفظه الله- بدعم سخي لحفظ التراث العمراني السعودي والذي يعبر عن مرحلة غائرة في التاريخ والذي تم تسجيله ضمن قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو، لقد كان دعماً سخياً بمبلغ 50 مليون ريال سعودي. إن هذا الدعم وهذه المبادرة هي إحدى دعائم الأصالة والحفاظ على الهوية وعلى التاريخ من قائد يشعر بهَّم الوطن ويعرف قيمة تراثة وأهمية الحفاظ عليه في زمن تتوجه السهام لمحو التاريخ.! فشكرا لأصحاب الهمم من بلادي وشكرا لسمو ولي العهد محمد بن سلمان -حفظه الله-.