سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
العولمة نظام شمولي "يسلع" الناس، والفكر العربي يعيش مرحلة انتقالية . مراهناً على دور الطبقات الوسطى في صياغة مشروع قومي جديد . طيب تيزيني : مات المثقف الثوري، يعيش المثقف النهضوي !
"اذا مارسنا الآن نقداً ذاتياً نتبين ان المشروع الثوري الذي كان يطرح في الفكر العربي لم يكن الا نتاج الفئات الوسطى التي لا تستطيع بطبيعتها ان تنجز مثل هذا المشروع"، من هذا المنطلق يسعى طيب تيزيني اليوم إلى البحث عن سبل التأسيس لنهضة عربية جديدة، معتبراً أن "البنية الاجتماعية مهيأة الآن لمثل هذا المشروع". والمفكّر السوري الذي يقوم بنقد النظام العولمي بوصفه الخطر الذي يتهدّد العرب خصوصاً، والحضارة البشريّة بشكل عام، يؤكّد اصراره على العقلانيّة والتحوّل السلمي البطيء، رافضاً تفجير البنى القائمة، كرفضه التبعيّة لها، وداعياً إلى ايجاد الحلّ الثالث، إذ "ليس المطلوب هدم ما هو قائم، بقدر ما ينبغي السعي الى اعادة بنائه". ويكشف صاحب "من التراث الى الثورة" أنّه في طور اعادة النظر بفكره واعماله، مذكّراً بأن "إن الفكر العربي المعاصر لا يمثل بنية واحدة، ذات بعد واحد، ونسق واحد، وانما ينطوي على أنساق وألوان متعددة". الدكتور طيب تيزيني الذي اختير أخيراً على قائمة "مئة فيلسوف عالمي في القرن العشرين" من قبل مؤسسة كونكورديا الفلسفية الالمانية، هو صاحب العديد من المؤلفات: "من التراث الى الثورة" و"الفكر العربي في بواكيره الاولى" و"النص امام اشكالية البنية والقراءة"، وآخر أعماله كان محاورة مع الدكتور الشيخ محمد سعيد البوطي حول "الاسلام والعصر". وقد تحدّث المفكّر السوري الى "الوسط" عن آخر ابحاثه الفكرية، وعن علاقته باليسار وبالانظمة الحاكمة، وعن بدء قيامه بعملية "مراجعة نقدية عميقة للفكر العربي" تشمل ما انتجه هو على امتداد ثلاثة عقود. ويتطرق تيزيني مطولاً الى العولمة وسبل مواجهتها عربياً، عبر استعادة المشروع العربي. نلاحظ عندك حالة كآبة وانطواء في الآونة الأخيرة... - أثرت في ذهني شجون الماضي، والبدايات الاولى، في مرحلة اصبح فيها الانسان منجذباً الى حالة الحنين الى الماضي، ربما بسبب الكآبة الكبرى التي نعيشها حالياً في الواقع العربي، وهي كآبة قد تكون مصادرها متعددة، منها المصدر السياسي والثقافي والاجتماعي. وأرى ان المجتمع العربي يعيش الآن "حالة الحطام المفتوح". الجينات في المجتمع العربي تخضع منذ عقدين او اكثر الى عملية تفكيك واسعة النطاق بحيث اننا نعيش مثل هذا الحطام المفتوح وأعني به تفكك البنية وتهدمها العميق، قصداً. وبفعل التاريخ فانها ما تزال مفتوحة وما تزال تحتمل امكانية الرهان على بدائل اخرى جديدة. ما المقصود ب "الحطام المفتوح"؟ وما البدائل الجديدة؟ - منذ مرحلة ما بعد الحرب الثانية، كان يجري الحديث عن "تخلف عربي"، وكان المصطلح يشير إلى امور كثيرة، منها التخلف الذي بدأ يترسخ مع انهيار النهضة العربية الحديثة. لكننا الآن، وتحديداً مع النظام العالمي الجديد، نلاحظ أن هناك عملية ترسيخ لهذا التخلف تجعل منه حالة مستديمة، وتؤمّن استمراريّته وتفاقمه. وحين ابقى في حديثي عند حد التفكيك والتهدم الداخلي، فانني استطيع ان اعبر عن ذلك بمقولة "التخليف"، اي الحطام من دون رؤية واضحة لبدائل... ولكن حينما اضيف الحطام المفتوح فانما اعني انه ما زال يحتوي حالات اخرى على الباحث ان يكتشفها. ويمكن ذلك اذا ما ميزنا بين بنيتين في الوضع العربي الراهن: بنية معلنة وبنية خفية. البنية المعلنة، هي التي يتمّ التأكيد عليها الآن، للتأكيد على اننا انتهينا وعلينا الاستسلام امام الوافد الجديد. أما البنية الاخرى، الخفية، التي تقصى وتهمّش، فهي التي نستمد منها نتائج مغايرة. انها بنية الملايين من الناس الذين يعيشون حالة من الاذلال السياسي والافقار الاقتصادي والتهميش الثقافي، الا انهم لا يزالون يراهنون على مستقبل ما، وما زالوا يشكلون رهاناً محتملاً. مع نشوء المجتمع الاستهلاكي العربي، تزايدت نسبة الافقار. والفئات الوسطى، المعروفة بكونها ميسورة اقتصادياً ومستنيرة عقلياً، أخذت تتصدع بفعل الضائقة الاقتصادية، وتتهدم باتجاه الادنى مفسحة الطريق امام استقطاب اجتماعي واقتصادي جديد، بين من يكاد يملك كل شيء ومن يكاد لا يملك شيئاً. هذه الحالة الجديدة حملت آفاق جديدة، اعبر عنها بالحطام المفتوح. قبل السبعينات كان الفكر السياسي العربي يشتغل على ادوات ومفاهيم ومصطلحات معظمها يدخل في خانة الفكر الثوري الذي اخذ يعيش حالة تفكك، إذ ان الحامل الاجتماعي لفكرة الثورة المتمثل بالفئات الوسطى بدأ يتصدع. ومنذ ذلك الحين، يعيش المجتمع حالة من الفراغ السياسي والثقافي، لان هذه الفئات هي الحامل الذي انتج الثقافة والسياسة والعربية على الاقل منذ بداية القرن العشرين، وانتج اربعة مشاريع هي المشروع القومي والليبيرالي التحديثي والماركسي والديني المستنير غير المؤسسي. انحسار المشروع القومي هل هناك عوامل اخرى ادت الى انحسار المشروع القومي العربي؟ - العامل الاساسي والحاسم يتمثل في هذا الشرخ الذي اخذ يتشكل في المجتمع العربي. فبعد ان كان قائماً على ثلاثة اطراف يقوم الآن على طرفين بعد تصدع الوسط. وهناك عوامل اخرى، بينها نشوء الدولة الامنية في النظام السياسي العربي. فمع تصدع المجتمع وانحسار الفئات الوسطى، طرأ تحول على النظام السياسي والثقافي الذي راح يسعى الى ان يفسد من لم يفسد بعد بحيث يصبح الجميع مداناً تحت الطلب. وبدلاً من امن الدولة اصبح هنالك دولة الامن، التي تناط بها وظيفة ابتلاع ما يتشكل في اطار رهان عربي جديد، يؤسس للمشروع العربي على انقاض المشروع المهدم. وهناك أيضاً تعاظم التبعية الاقتصادية والسياسية العربية للنظام العالمي الجديد. لكنّ سقوط هذا المشروع القومي ليس، في نظري، لا قطعياً ولا ونهائياً. فما زال بالامكان المراهنة على الفئات الوسطى المفككة، وعلى مساهمتها مرة جديدة في صياغة مشروع قومي... ولكن من موقعها الجديد في اطار القاع العربي. لكن صحوة الطبقة الوسطى قد تؤدّي إلى احتمالات اخرى؟ - قلت ان البنية مفتوحة. من الاحتمالات الاخرى الواردة استمرار التهدم، بحيث يتحول الحطام الى حطام مغلق فعلاً. ولا شكّ في أن العولمة تراهن على ذلك، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية. هناك تعريفات عدّة للعولمة، وآراء مختلفة حولها. فما تعريفك الخاص لها، وما نظرتك إليها؟ - هناك آراء مختلفة قد اقرّ بها جميعها، لكن لا بد ان اشير الى التعريف الأساسي: العولمة نظام سياسي واقتصادي وثقافي يعمل على ابتلاع الاشياء والناس، من اجل تمثلهم وهضمهم، ومن ثمّ تقيؤهم سلعاً. ان هذا النظام يسعى الى تسييد السلعة في العالم بعد اقصاء كل الهويات التي تشكلت تاريخياً، ومع هذه الهويات الدولة الوطنية القومية. كل هذا ينبغي ان يتفكك، حسب منطق العولمة، في سبيل عالم مفتوح على أساس الهوية الوحيدة الواحدة : السلعة. الفكرة المركزية في النظام العولمي هي "الكوزموسوقية" نسبة إلى الكوزموليتيّة والسوق او السوق الكونية السلعية. ونلاحظ هنا أن نظريّات "ما بعد الحداثة" تتطابق مع منطق فكرة العولمة، إذ انّ دعواها تقوم على ضرورة تفكك ما نسميه انماطاً اساسية، لأنه استنفد تاريخياً. وهذه الانماط هي التي تشكلت على مدى التاريخ كله، خصوصاً على مدى تاريخ الرأسمالية الغربية، من العقلانية الى التاريخية الى الحداثة الى التقدم الى الديموقراطية. نهاية العالم؟ هناك من يعتبر أن العولمة ساهمت، بشكل غير مباشر ولا مقصود، في تنبيه الناس الى هوياتهم الثقافية وخصوصياتهم المحلية... - ساهمت على طريقة من يقول ان الطريق الى الجنة معبد بالشياطين! العولمة اتت لتنادي باسقاط هذه الهويات، فتنبيهها في هذا الاتجاه ليس ايجابياً وانما استفزاز. هؤلاء الناس بدأوا يدركون انهم يعيشون في حالة قد تكون نهاية العالم، وفعلاً هناك من استنبط من هذه الاتجاهات نتائج ميتافيزيقية. الشيء المثير هنا ان الخطاب العولمي الذي اتى خصوصاً تحت تأثيرين كبيرين هما الثورة المعلوماتية الهائلة وتفكك المنظومة الاشتراكية، هذا الخطاب يقدم نفسه على انه يسعى الى تحقيق وحدة البشرية القرية العالمية الصغيرة. لكنّ هذا الخطاب ينبغي أن يفهم في سياقه الحقيقي، إذ انّه اتى ليس من اجل خلق انسانية جديدة، وانما لوضع هذه الأخيرة تحت قبضة هيمنة سياسية جديدة. وهنا يبرز امامنا خطابان: خطاب الوحدة وخطاب التفكيك. واذا ما وضعنا هذين الخطابين موضع التشكيك العلمي، نكتشف ان الخطاب التفكيكي هو الحاسم. اي تفكيك العالم بغية تحويله الى عالم يخضع للمصالح التي يفرضها هذا النظام. يريد النظام العولمي ان يهدم كل الهويات متساوقاً في ذلك مع ما بعد الحداثة، لكونها اصبحت عبئاً على التاريخ! لكنّه يعمل بدوره، في المقابل، على انبعاث الهويات الاخرى التي استنفدت تاريخياً: الهويات الاثنية السلالية، الهويات المذهبية والطائفية. كل هذا الذي اصبح من ركام التاريخ، يراد له الآن ان يعاد بناؤه لتحقيق الوظيفة الاساسية المنوطة بالنظام العولمي، أي تسييد هوية السلعة. وهذا التناقض موجود في بنية العولمة. هل تمثل العولمة تحدياً للمجتمع العربي اكثر منه للمجتمعات الاوروبية مثلاً؟ - ينبغي الحديث عن خصوصية كل بلد. لكن العالم كله مرشح الآن لأن يبتلع عولمياً، بما في ذلك بلد العولمة الاول الولاياتالمتحدة الاميركية. الخصوصيات تتأتى مصادرها من التاريخ القومي او الوطني لهذا البلد او ذاك. اذكر مثلاً وزيرة الثقافة الايطالية التي كانت تشكو من ان صناعة السينما والعرض السينمائي في ايطاليا، تصل نسبة الانتاج الاميركي فيها الى 87 في المئة، وتساءلت ماذا تبقى اذاً للامة الايطالية؟ فالخطر شامل لكن شموله لا يلغي الخصوصيات... أيّة خصوصيّات مثلاً؟ - إحدى هذه الخصوصيّات التي تهمّني الاشارة إليها، هي قضيّة المرأة في الوضعية العربية، حيث ما يزال عنصر التحرير ضئيلاً. فالمرأة العربية التي كادت ان تخرج من عزلتها، ومن الهوية القسريّة التي ارغمت على الاندماج فيها، تجد نفسها الآن مرة جديدة مرغمة على العودة الى هذه الهوية. كيف؟ هذه المسألة ما ازال اشتغل عليها. المرأة مهددة الآن بأن تبتلع عبر وظيفتين: مسوِّقة بكسر الواو للعالم السلعي الجديد، أوّلاً، لامتلاكها فضائل بيولوجية، ومسوَّقة بفتح الواو إذ تتحوّل هي نفسها سلعةً. يأتي هذا النظام وكأنه ظاهرة مباغته لنا نحن العرب، لأننا لم نكن نملك الوعي التاريخي بما كان يحدث في اوروبا في هذا العقد على الاقل. ولذلك نعيش حالة من "الحيص بيص". ان الوضع العربي الآن تساهم العولمة في تحويله حقاً الى حطام مفتوح، وسيظل مفتوحاً انطلاقاً من ان اي نظام سياسي واقتصادي واجتماعي لن يكون قادراً على ابتلاع كلّ البدائل التي تنتجها البشرية. يسار غير وطني كيف تتم مواجهة العولمة على الصعيد العربي؟ - تتم المواجهة في استعادة المشروع العربي وهو الذي جعلني اعيد النظر في الكثير مما قدمته منذ السبعينات وحتى التسعينات. فأنا أحاول التأسيس لمشروع نهضة عربية جديدة، بعدما كان الامر في السبعينات والثمانينات هو مشروع ثورة. اذا مارسنا الآن نقداً ذاتياً نتبين ان ذلك المشروع الثوري الذي كان يطرح في الفكر العربي لم يكن الا نتاج الفئات الوسطى، اي الفئات التي لا تستطيع بحكم كونها فئات وسطى ان تنجز مشروعاً ثورياً، لذلك حتى ذلك الفكر الثوري كان مخترقاً. ونتبين ايضاً امراً جديداً يتمثل في ان المشروع الثوري ليس له رصيده الآن، لأن الحامل الاجتماعي لأية حركة سياسية وهو مصطلح حاسم لأية حركة اجتماعية، هو الآن حامل لنهضة عربية. فالبنية الاجتماعية مهيأة الآن لأن تحتمل مثل هذا المشروع النهضوي. لماذا؟ لأن مثل هذا المشروع ينطلق من حامل اجتماعي، يتمثل في الامة برمتها: من أدناها إلى أقصاها، ومن اقصى اليمين الوطني الى اقصى اليسار الوطني. لقد بدأنا نتكشف حالة جديدة، هي انه اضافة الى وجود يمين غير وطني هناك يسار غير وطني. الآن نبدو وكأننا نستعيد الحالة التي عاينها المفكرون النهضويون العرب في القرن التاسع عشر، وحتى بدايات القرن العشرين. كيف يمكن لهذا المشروع النهضوي ان يتحقق؟ - هنا السؤال الكبير! يتم ذلك بمحاولة خلق حالة جديدة في الواقع العربي، وبطبيعة الحال في الدرجة الاولى في الفكر العربي الذي سيكون مدعواً للافصاح عن هذا المشروع، واكتشاف ما حدث وما يحدث وما علينا ان ننجز. في مرحلة تصاعد العولمة، يبدو ان المسألة في الفكر العربي، وفي الواقع العربي عموماً، اصبحت معقدة بحيث قد تبدو انها دخلت نفقاً مغلقاً. ولكن يمكن ان نكتشف فيه ثغرة لاعتبارين: الاعتبار الاول يتلخّص في أنّه لا توجد في الاساس بنية مغلقة بشكل مطلق. والسؤال من يستطيع ان يفتح هذه البنية، وما هي الادوات المعرفية والسياسية؟ أما الاعتبار الثاني، فمفاده أننا نعيش حالة فريدة في التاريخ العربي كله، وهي ان "الثالث قد رفع"، واعني به الفئات الوسطى التي كانت تصادر كل الحلول الحقيقية الجذرية وتقوم بلعبة تاريخية تعتمد على المراوغة. لقد كانت تبتز الاعلى وتمسك بالادنى، وبالتالي فان مشاريعها لم تأت ذات صدقية. الرهان الآن قد يتبلور مع تحقيق هذه الفئات مهماتها التاريخية، وهي ان تندمج اندماجاً فئوياً طبقياً بالقاع العربي، وان تصوغ مشروعاً جديداً ليس في ضوء "وسطويتها" وانما في ضوء البنية الجديدة التي تنتمي اليها. مبدأ التعددية الحزبية كيف يمكن خلق حالة جديدة في اطار هذه البنية؟ - هناك احتمالات عدّة، تتمثل في أربعة مداخل. المدخل السياسي: لا بد للواقع العربي ان يتأسس على حالة جديدة من الديموقراطية التي لا بد ان تنطلق من ثلاثة مبادئ. اقرار مبدأ التعددية السياسية والحزبية اقراراً غير مشروط، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، ومبدأ التعددية في المنابر الثقافية. المدخل الاقتصادي وينطلق من ضرورة احياء السؤال "من اين لك هذا؟". إذ نلاحظ منذ عقود عدّة تعاظم وتائر نهب الثروة الوطنية والقومية عبر الرشوة واللصوصية وكل اشكال الموبقات، من قبل فئات طفيلية، لا تمتلك الثروة نتيجة لعملية التنمية. أما المدخل الثقافي، فيتمثل بضرورة اعادة بناء الثقافة العربية من موقع التمكين لثقافة التنوير في مواجهة الثقافة الظلامية التي تقوم على ثنائية المؤمن والكافر، الحاكم والمحكوم، والتي تعمل على تفكيك هذا البلد او ذاك بالتساوق مع النظام العولمي. هذه المواجهة غير ممكنة الا من خلال ثقافة وطنية وقومية نهضوية اساسها الاقرار بالآخر والتعددية بكل انماطها المحتملة. وهذا الامر منوط الى درجة كبيرة بالمثقفين العرب الذين ما زالوا يمثلون اشكالاً اولى من تحقيق ما يطمح اليه الوطن. ويبقى المدخل القومي الذي يردّ على محاولة التطبيع العربي - الاسرائيلي، عبر طرح التطبيع العربي - العربي بديلاً : التطبيع على مستوى النظم العربية في ما بينها، وعلى مستوى العلاقة بين تلك النظم وشعوبها. رؤية عقلانيّة وسلميّة كيف تنظر إلى علاقة المثقّف العربي اليوم بالسلطة؟ - لقد كونت في المرحلة الاخيرة قناعة بأننا نمضي في طريق قاتلة إذا استمر الواقع السياسي العربي على ما هو عليه، فنحن نمضي في طريق قاتلة. واذا ما فجر من داخله، ان ذلك يمثل بدوره خطراً محدقاً. ما العمل اذاً؟ انه سؤال ذو اشكالية معقدة، هناك مشروع اجابة اولية : لا بدّ من استنباط علاقات جديدة تقوم على الرؤية العقلانية والسلمية، التي تؤمن بالتطوّر البطيء، والتي يقودها رجال عقلاء من اقصى اليمين الوطني الى اقصى اليسار الوطني. هناك ضرورة لنشوء حالة من الديناميّة السياسية والثقافية في المجتمع، بوسعها أن تفرز بدائل للواقع القائم، ليس المطلوب هدم ما هو قائم، بقدر ما ينبغي السعي الى اعادة بنائه. أما ضرب البنى القائمة، فقد يفتح الطريق أمام النظام العولمي للتدخل في العالم العربي بدعوة اعادة توازنه السياسي. ان مثال كوسوفو يقدم هنا نموذجاً بارعاً وخطيراً. انني لا انتمي لهذا الواقع السياسي العربي ولكنني مسكون بهاجس وطني وقومي، يتمثل في كيفية اكتشاف البديل. اذاً لا مهادنة تسعى الى تأييد النظام، ولا مواجهة تسعى الى تفجيره. انا انتمي الى اليسار النهضوي العربي الذي يحاول ان يدرك المهمات التاريخية لخلق شروط مواجهة بأدوات معرفية وسياسية، ربما تكون جديدة تماماً. ومن ثم اسعى إلى شق الطريق أمام مشروع نهوض عربي جديد يعالج المعادلة المطروحة. هذا يفترض مجموعة من اعادات النظر والمراجعات الجريئة... - صحيح، وقد بدأت بعملية مراجعة نقدية عميقة للفكر العربي بما فيه ما انتجته انا على امتداد ثلاثة عقود. فمثلاً انا الآن في طور اعادة النظر في واحد من اهم اعمالي وهو "من التراث الى الثورة". وانطلاقاً من تلك المراجعة، فلو أعدت كتابة المؤلّف نفسه اليوم، سيكون عنوانه بالصيغة التالية: "من التراث الى النهضة". وهذه المراجعة النقدية هي، في الحقيقة، ألف باء ما يمكن ان ينجزه المثقف العربي في الزمن الراهن. هل انتهى دور المثقف الثوري اذاً؟ - لنقل إنّه أُرجئ إلى أجل غير مسمّى. النهضة الآن في ظني هي المشروع المطروح، والسبيل الوحيد للردّ على ما يحدث في المجتمع العربي داخلاً وخارجاً. ولذلك فان مفهوم المثقف الثوري العربي، ربما اصبح ضرورياً ان يعاد بناؤه لمصلحة المثقف النهضوي الذي سيظل مع ذلك يحافظ على الحوافز الكبرى التي يقدمها مفهوم المثقف الثوري. لم نعد امام حالة تستدعي الابقاء على احزاب ومنظمات سياسية تعلن استراتيجياتها على اساس ثورة اجتماعية، من موقع طبقة او تحالف طبقي، وانما من موقع الحامل الاجتماعي للنهضة العربية. وعلى هذه الاحزاب ان وجدت ان تعيد بناء تكويناتها التنظيمية والسياسية والايديولوجية على اساس مشروع نهضوي مفتوح، وهذا ما عبرت عنه بفكرة التعويم التنظيمي لمصلحة تأسيس نظري سياسي جديد يضع نصب عينيه المهمات الجديدة المطروحة امامنا. الوعي الزائف قلت أخيراً في إحدى محاضراتك: "بعد مراجعة طويلة… تبين لي اننا نحمل وعياً زائفاً"، ما الذي قصدته بالوعي الزائف؟ - إن الفكر العربي المعاصر لا يمثل بنية واحدة، ذات بعد واحد، ونسق واحد، وانما ينطوي على أنساق وألوان متعددة. ويخطئ المثقفون والباحثون الذين يرون أن الفكر العربي، ماضياً وراهناً، يتمثل في بنية واحدة تكرر نفسها على نحو جمودي مغلق. ان القول بوعي زائف في فكرنا المعاصر، يشير الى اتجاه فيه يقوم على الاعتقاد بضرورة ايجاد حلول للاشكالية العربية الراهنة من موقع الآخر، وعبر الرهان عليه، واعني بهذا الآخر العولمي، الامبريالي الجديد. واقدم هنا نموذجين، الاول يتمثل في المفكّر اللبناني شارل مالك الذي اعلن في كتابه "المقدمة" أن علينا، للنهوض بواقعنا اللبناني والعربي عموماً، ان نحذو حذو الغرب... مغيباً بذلك ان هذا الغرب نفسه هو من اسهم اسهاماً عميقاً في اخفاق نهضتنا العربية الحديثة، وهو من يسعى راهناً إلى تشجيع تخلفنا وتحويله الى تخليف مستديم يبدو وكأنه اصبح شيئاً فطرياً في جلودنا، بتعبير المفكر المصري الراحل زكي نجيب محمود. والثاني يتمثل في المفكّر المغربي محمد عابد الجابري الذي قدم جهوداً فكرية مهمّة ولا شك، لكنه اراد ان يؤسس لها بمقولتين. أوّلهما العجز الفطري الطبيعي للغة العربية عن ان تكون لغة ترقى الى مستوى التفكير العلمي والفلسفي بسبب انها، على حد رأيه، حسية لا تاريخية. والمقولة الثانية تنطلق من ان العقل العربي عقل اذ تكوّن في القرن الهجري الثالث، كما يرى، فانه كتب نهايته بحيث توقف عن التغير والتقدم وتحول من ثمّ الى عقل عقيم. ان هذا وذاك ليس من شأنهما الاسهام في تكون فكر عربي متقدم، وانما يسهمان في تعميق عجزه عن مواجهة التحديات الراهنة. وعلى هذا فان مصطلح الوعي الزائف يتصل بمثل هذه النماذج التي، وان كانت قد انتجت في سياق الواقع العربي، فانها اتت لتصوغ هذا الواقع على نحو مغلق، غير قابل للدخول في عوالم وفضاءات تاريخية مفتوحة. وهذا الوعي الزائف يصبّ في فكرة فوكوياما التي تقول بأن التاريخ انتهى الى حلقته الاخيرة، المتمثلة في النظام العولمي الاميركي. ما هي الاتجاهات الفلسفية السائدة حالياً في العالم العربي؟ - يلاحظ ان التحولات الكبرى التي طرأت على العالم، وعلى الواقع العربي، انتجت بنيات فلسفية جديدة في الفكر العربي. ونشاهد الآن بروزاً لتلك التيارات الفلسفية التي ربما اتت نتيجة لنظام العولمة، او كظاهرة له، ومنها خصوصاً ما بعد الحداثة، ونظرية نهاية التاريخ، والبنيوية التفكيكية اللاتاريخية، مع بروز خاص للفلسفة الذرائعية... وفي سياق ذلك لوحظ منذ العقد الاخير بعض التراجع للفلسفة الماركسية التي تواجه الآن حالة انبعاث جديد ونسبي، وتنتعش في اوساط بعض المثقفين، وبعض المؤسسات الثقافية والاكاديمية. والمهم ان الفكر العربي بنسقه الفلسفي يعيش الآن حالة انتقالية معقدة، قد تستمر طويلاً. بيد ان تحولات الواقع، والتغيرات المحتملة، ربما تعمل على اعادة تقسيم اللوحة الفلسفية للفكر العربي، تبعاً لنسقين هما الفلسفة العربية الوسيطة بتوجهها العقلي والعقلاني، والفلسفة الماركسية بعد اعادة بنائها وفق آليات المراجعات النقدية التي تعيشها بعض الاوساط المثقفة العربية. وقد يتحد هذان النسقان ليشكلا حالة انبعاث للفكر العربي الراهن تعريف - أستاذ الفلسفة في قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية في جامعة دمشق - - له مؤلفات بالالمانية وأعمال مترجمة إلى هذه اللغة. ومن مؤلفاته بالعربيّة: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط. من التراث الى الثورة. الفكر العربي في بواكيره الاولى. مقدمات اولية في التأسيس للاسلام الباكر. من الاستشراق الغربي الى الاستغراب المغربي. بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي. الاسلام والعصر حوار مع محمد سعيد رمضان البوطي. - عضو لجنة الدفاع عن الحريات الصحافية في الوطن العربي في القاهرة. - تم اختياره "واحداً من مئة فيلسوف عالمي في القرن العشرين" من قبل مؤسسة كونكورديا الفلسفية في المانيا.