تمر دول مجلس التعاون الخليجي بظروف بالغة الخطورة وبريح صرصر عاتية متلاطمة لا تهدد مكتسباتها التي شيدت بالعرق والدموع. لقد تكالب الأعداء بل وكثير ممن يعدون أصدقاء على (القصعة) الخليجية على اعتبار أنه قد حان قطافها. ولا سبيل إلى الصمود والبقاء والحفاظ على كياناتها ومقدراتها إلا بالاعتماد على الله ثم على النفس والتكاتف والتلاحم فيما بينها وسط ظلمات بعضها فوق بعض، وإن لم تفعل فالعواقب وخيمة وسيكون مصيرها مصير الثيران الثلاثة التي افترسها الأسد بتفرقها. لقد أوجدت دورة الخليج لكرة القدم من أجل هدفين نبيلين؛ رفع المستوى الرياضي والفني لكرة القدم في دول الخليج على المستويات الوطنية والعربية والقارية والعالمية، والهدف الثاني غرس الروح الرياضية وإذكاء روح التنافس الشريف بين الشباب الخليجي وتعزيز أواصر المحبة والإخاء، ولقد تحقق الهدف الأول كما هو مشهود، أما الهدف الثاني فقد أخفقت دورات الخليج - وبامتياز - في تحقيقه بل حصل عكس المأمول، «ويا ليتنا من حجنا سالمين» كما يقول شطر بيت شعبي. ولعل الجميع يعرف عند بداية كل دورة مدى الشحن الإعلامي والنفسي والمهاترات والتحديات والمهايط التي يزكيها حمالو الحطب من رؤساء وفود ولاعبين وإعلاميين ومشجعين وغيرهم لا يقتصر شررها على الشباب والمراهقين بل تصل أحياناً إلى من هم في موقع المسؤولية والتخطيط، وخير دليل على ذلك التعليقات التي تخرج عن الروح الرياضية في القنوات الفضائية وفي مواقع التواصل الاجتماعي من قبل المشجعين بعد كل مبارة وإلى درجة مخيفة ما سمعته شخصياً من بعض المشجعين في أكثر من دولة خليجية واحدة وهو أنهم يتقبلون الهزيمة من منتخب أجنبي، ولكن لا يتقبلونها أبداً من الفريق الخليجي الفلاني، وأذكر أن أحد وزراء خارجية إحدى الدول الخليجية شكا من أن مباراة واحدة في دورة الخليج كفيلة بإفشال الجهود الخيرة كافة في لم الشمل وتعزيز أواصر المحبة والتلاحم بين شبابها وشعوبها، ولهذا كله أتوجه إلى قادة دول الخليج العربية وإلى المسؤولين في المجال الرياضي وإلى الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي بنداء مخلص لإلغائها قبل أن يستفحل خطرها إلى ما هو أعظم، لأن معظم النار من مستصغر الشرر، وحتى لا يستغل الأعداء والمتربصون الصيد في المياه العكرة وبخاصة في هذه الظروف العصيبة التي تنتشر فيها الحرائق والفتن، أما من سيتباكى على فقدان الاحتكاك الرياضي إذا ألغيت فهو موجود وفي الحفظ والصون على المستوى العربي والقاري والعالمي، بل لا خير في احتكاك لا يجلب إلا الشرور والفرقة، وفي هذا تطبيق لقاعدة أصولية إنسانية عظيمة وهي أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، هذا إضافة إلى أنها دورة لا تعترف بها الفيفا، والواقع أن كرة القدم على المستوى العالمي كله قد أخذت من الاهتمام أكثر مما تستحق وأصبحت مجالاً لبث الكراهية بين الدول والشعوب وأصبحت حاضنة للفساد والرشوة والمراهنات المشبوهة وانحرفت عن مسارها وغاياتها النبيلة، وكمثال على هذا ما قاله اللاعب الأرجنتيني ونجم كأس العالم العام 1978م «كيبمس» في لقاء تلفزيوني من أن مباراة كرة قدم بين البرازيلوالأرجنتين تعني الحرب، وكذلك المناوشات على الحدود بين دولتين أميركيتين جنوبيتين التي كادت أن تشعل الحرب بسبب مباراة كرة قدم، ولا نذهب بعيداً فكلنا يذكر الحالة القصوى في التوتر والاحتقان اللاعقلاني بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة قدم في إحدى تصفيات كأس العالم، ولا يقتصر التعصب الكروي الأعمى على الدول النامية فقط بل يشمل الدول الموصوفة بالمتقدمة فلا تجري مباراة على مستوى كأس العالم بين بريطانيا وألمانيا إلا وتنفلت الغرائر البدائية ونشر الغسيل القذر بينهما وحدوث المشاجرات العنيفة والدموية أحياناً بين مشجعي الطرفين وتعريض السياح للأذى والعنف. لقد صار هناك تلوث جديد في العالم من الممكن تسميته «بالتلوث الكروي» ليضاف إلى التلوثات المتعددة التي تهدد الإنسان مثل التلوث البيئي والمناخي والإشعاعي وغيرها، وإلا فبماذا نفسر الخلافات الحادة بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب التشجيع لفرق مختلفة، وبماذا نفسر ضعف الولاء الوطني حينما يتمنى بعض المتعصبين هزيمة المنتخب الوطني لا لشيء إلا لأنه لم يضم إليه اللاعب الفلاني أو العلاني من فريقه الذي يشجعه، أو لماذا لا يريد متعصب آخر فوز المنتخب إذا تحقق ذلك عن طريق لاعبين من فرق يكرهها، ولماذا يتعملق بعض اللاعبين إذا لعب لفريقه ويتلاشى بريقه إذا لعب للمنتخب، ولماذا لا يزال إلى الآن هناك «شياب» تجاوزوا مرحلة «الجدودية» وتجاوزوا مرحلة التشجيع المعتدل إلى التعصب الأعمى الذي يجعلهم يتشاجرون ويصرخ بعضهم على بعض وكأنهم ما زالوا في مرحلة المراهقة، أوليست أسرهم وأمراض السكر والضغط والبروستاتا وهشاشة العظام والركب وغيرها التي يعانون منها، والتي ربما ضاعفها هذا التعصب الزائد عن الحد أولى بالاهتمام؟ وإذا انتقلنا إلى الخارج وجدنا عندنا وعندهم خير فيما يتعلق بهذا التلوث الكروي وتأثيره على الولاء الوطني ومنه على سبيل المثال ما حدث في إحدى دورات كأس العالم وبالتحديد في مباراة نصف النهائي بين إيطالياوالأرجنتين، حيث كان المشجعون من مدينة نابولي الإيطالية يشجعون فريق الأرجنتين ضد فريقهم الوطني لا لشيء إلا لأن ماردونا الذي لعب في المباراة كان نجماً غير عادي في فريق نابولي وقاد الكثير من انتصاراته، ومن ذلك أيضاً ما أرسله مشجع للفريق البريطاني المشهور ليفربول وهو رسالة قصيرة عبر الهاتف المحمول إلى أحد لاعبيه الذي أضاع ضربة جزاء «بنلتي» للفريق الوطني الإنجليز في إحدى التصفيات، حيث دعاه إلى عدم الندم والحزن لأنه لم يضيعها في مباراة بين ليفربول ونادٍ آخر، أما خيانة اللاعبين على مستوى فرقهم فحدث ولا حرج حيث تستغلها مكاتب المراهنات على المباريات بدناءة ووضاعة، والطريف أن التلوث الكروي قد يأخذ أحياناً طابعاً دينياً ولو كان عن طريق المداعبة، الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» مطالب بأن لا يقف مكتوف الأيدي، وأن يعمل شيئاً تجاه هذا التلوث الكروي، وأن يمنح كرة القدم ومنافستها وجهاً حضارياً راقياً وتنافسياً شريفاً عبر تشريعات صارمة تشمل كل جوانب اللعبة من تشجيع وعنف داخل الملاعب وخارجها ومراهنات ورشى وفساد وإعلان وعنصرية وأنظمة وغيرها. لقد استفحل خطر هذا الوحش العاتي الذي صنعه الإنسان بنفسه، وأصبح من الضرورة إعادته إلى حجمه الطبيعي.