دفع التطور التقني الذي نعيشه في عالم اليوم الإنسان لتبني أنماط وعادات جديدة تُلامس جميع جوانب حياته وممارساته وعاداته الاجتماعية، وعلى الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه التقنية في تسهيل حياتنا وتلبية احتياجاتنا على تنوعها، إلا أن البشر يميلون بطبعهم إلى التواصل المُباشر ويرغبون في مُعايشة تجارب واقعية تنسجم مع رغبتهم في الاستكشاف والتعرف على العالم من حولهم، وهو ما يظهر بوضوح عندما يتعلق الأمر بعمليات التسوق. ارتفاع نسبة السلع المعادة للبائع في التجارة الإلكترونية أثر سلباً على رضا 60 % من المستهلكين ويبرز تقرير لصحيفة "إيكونيميست" أنه رغم الانتشار المستمر للتجارة الإلكترونية عالميًا، ما زال لتجربة التسوق المباشر بهجتها ورونقها الخاص والمميز، حيث يشير التقرير إلى أن نحو ثلثي مستخدمي خدمات التسوق الإلكتروني أعربوا عن عدم رغبتهم في الاستغناء نهائيًا عن تجارب التسوق التقليدي، مؤكداً ارتباط هذا النوع من عمليات التسوق بتلبية جانب مهم من الاحتياجات الإنسانية وهو التواصل المباشر، بالإضافة إلى رغبة البعض في معاينة المنتجات قبل شرائها؛ لا سميا الملابس أو الأجهزة الكهربائية والإلكترونية أو حتى بعض المأكولات. وقد جاء تصريح جيف بيزوس مؤسس ورئيس شركة أمازون دوت كوم على إحدى القنوات التلفزيونية الأميركية كمؤشر مهم على احتفاظ التسوق التقليدي على أهمية في تجارة التجزئة حتى في أكثر الدول انتشاراً للتجارة الإلكترونية، حيث أكد جيف بيزوس أن ما يقرب من 90 % من تجارة التجزئة في الولاياتالمتحدة يتم عبر المتاجر وخارج عالم الإنترنت، وذلك وفقاً للتقرير الفصلي لوزارة التجارة الأميركية حول مبيعات التجارة الإلكترونية الذي صدر في شهر مارس الماضي. وجهات مُتكاملة للترفيه والتسوق والعائلة ولا يختلف المستهلك السعودي في هذا الجانب الإنساني عن غيره من المستهلكين في باقي أنحاء العالم، لكن ما يميزه هو معايشته في الوقت الراهن لمرحلة جديدة ومُثيرة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي رسمت معالمها رؤية 2030 لتحقيق جودة حياة أفضل وخلق اقتصاد مُزدهر ومجتمع نابض بالحياة يوفر لسكانه خيارات متنوعة وملائمة من الترفيه العائلي ودور السينما، وهي الخيارات التي ترتبط بشكل مُباشر بمراكز التسوق المُنتشرة في رُبوع المملكة والتي واكبت بدورها هذا التحول الكبير في خيارات المستهلك السعودي عبر العمل على توفير تجارب تسوق شاملة ومتكاملة تمنح العائلات خيارات ترفيه وتسوق تناسب جميع الأعمار والأذواق. من هذا المُنطلق يظهر جلياً أن قطاع مراكز التسوق في السعودية على أعتاب مرحلة جديدة تتحول خلالها إلى وجهات مُتكاملة للتسوق والترفيه العائلي تلبي التوقعات المُرتفعة للمُستهلك السعودي، خاصة وأن الإحصائيات الحديثة لشركة (JLL) تُشير إلى أن حصة مساحات التجزئة في المملكة تعد منخفضة إلى حد كبير حيث لا تتجاوز 0.4 متر مربع للفرد الواحد، مقارنة بأسواق مثل دولة الإمارات (1.3 متر مربع) وأميركا الشمالية وأوروبا (2.1 متر مربع). التقنية الحديثة.. إثراء لتجربة التسوق خلال محور حديث في أحد مؤتمرات بيج شو التي يقيمها الاتحاد الوطني لشركات التجزئة في نيويورك تجمعت شركات وادي السيليكون بما فيها سيسكو، وإتش بي، وأوراكل، إضافة إلى عشرات الشركات الناشئة، لتبحث عن سُبل تطوير قطاع التجزئة قالت ستيسي شولمان، كبيرة الإداريين الابتكاريين لدى قسم التجزئة في شركة إنتل: "إن التكنولوجيا تعمل على إعادة تعريف أساسيات القطاع، فلم يعد الأمر يتعلق بإدخال المنتجات إلى السوق فحسب، بل بات الأمر الآن، يتعلق بالتجربة وعدم تعريض المتعامل للشعور بالملل". فاليوم هناك مرايا ذكية يوفرها التسوق المباشر، حيث يتم عرض الماكياج الافتراضي على وجوه المتعاملين، وتوفير سلال تسجل محتوياتها مباشرة عند صناديق دفع النقود، أو حتى في حسابات إلكترونية من خلال تتبع الكاميرات لحركة المنتجات في سلال المتسوقين، وأجهزة كمبيوتر لوحية خاصة بتصميم وتعديل ألعاب الأطفال. وفي المملكة، يعد قطاع التجزئة أحد أهم نماذج الأعمال التجارية التي تهم القطاعين العام والخاص، حيث تهدُف السعودية إلى تحويل 80 % من متاجرها إلى متاجر حديثة تتبع أحدث آليات الأعمال بحلول 2030 –وفقًا للهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة في المملكة "منشآت"، والتي تعمل على إلزام المتاجر التقليدية بتطبيق الحلول التقنية والسداد الإلكتروني، بهدف تطوير قطاع التجزئة والذي بدوره سيقوم بتوليد مليون وظيفة جديدة، كما بيّن مدير إدارة التجزئة ب"منشآت" الأستاذ محمود عبدالكريم في ورشة عمل بعنوان "استراتيجية تطوير قطاع التجزئة وآليات توطين القطاع". تحديات التسوق الإلكتروني وكشفت دراسة حديثة ل"بيزنيس إنسايدر" ارتفاع نسبة السلع التي تُعاد إلى البائع في التجارة الإلكترونية مما أثر سلباً على رضا 60 % من المتسوقين الذين أصبحوا يفضلون التسوق التقليدي في مراكز التجزئة، والتوقف عن الشراء باستخدام التطبيقات الإلكترونية، ولعل ما أعلنته هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات في السعودية في هذا الشأن يؤكد أن تفضيل المتسوقين في المملكة للشراء عبر القنوات التقليدية ما يزال مرتفعًا، في حين لم يتعدَّ متوسط عدد مرات تسوق الفرد في المملكة عبر الإنترنت أربع مرات وبقيمة أربعة آلاف ريال فقط على مدار السنة، وأضافت الهيئة في تقريرها لعام 2017 أن أكثر المستخدمين للتجارة الإلكترونية يفضلون الدفع عند الاستلام عن خيارات الدفع الإلكترونية الأخرى. هيئة الاتصالات أعلنت في التقرير ذاته أن حماية حقوق المستهلكين ما زالت تمثل مصدرًا للقلق في التجارة الإلكترونية، ولذلك سيظل الشراء عبر المتاجر التقليدية والأسواق التجارية محتفظًا بحصة كبيرة من عمليات الشراء في المملكة حيث يفضل الكثير من المستهلكين رؤية ومعاينة المنتجات، وبشكل خاص الملابس قبل شرائها. ويرى متسوقون عبر الإنترنت أنه رغم التنوع الواسع في المنتجات والخدمات المتوفرة عبر المتاجر الإلكترونية خاصة من قبل المواقع الأجنبية الكبرى، إلا أن طول مدة التوصيل على سبيل المثال تشكل عائقًا كبيراً. وسبق أن حددت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية في تقريرها عن التجارة الإلكترونية عام 2017 هذه المشكلة حيث خلص التقرير إلى عدم رضا المستهلكين عن الخدمات اللوجستية بسبب رسوم التوصيل المرتفعة، واحتمالية تعرض البضائع للتلف، وطول مدة التوصيل، إلى عدم رضا المستهلكين عن إعادة الاتفاق على التوصيل حين يفشل تسليم المنتج سواء بسبب عدم تحديد الموقع بدقة أو عدم التسليم في الوقت المحدد. وسردت الهيئة في تقريرها المعوقات التي تحد من تقبل المستهلكين في السعودية للتجارة الإلكترونية بدءاً من عدم الثقة في حفظ المواقع لخصوصية المعلومات الشخصية، إلى انخفاض الوعي فيما يتعلق بحماية حقوق المستهلك عند الشراء عبر الإنترنت، وصولاً إلى المشكلات اللوجستية كالمدة المطلوبة للتوصيل والتكلفة والتعامل مع البضائع. ورغم أن الإنفاق على التجارة الإلكترونية عام 2016 وصل إلى 29 مليار ريال، إلا أن النصيب الأكبر من هذا الإنفاق كان من نصيب قطاع الخدمات وليس السلع؛ حيث شكلت ثلثي إجمالي إنفاق التجارة الإلكترونية في السعودية عام 2016 وخاصة في الخدمات المرتبطة بالسفر والحجوزات والبرمجيات، فيما بقيت البضائع والمنتجات الاستهلاكية محدودة الإنفاق. وفي هذا السياق يؤكد خبراء اقتصاديون أن التسوق الإلكتروني الذي أصبح من أهم وسائل التسوق في الفترة الحالية في خضم زمن التحولات الرقمية التي نشهدها، لن يعوق استمرارية الأسواق التجارية والمولات المركزية، بل يتوقع الخبراء أن تحتفظ المراكز التجارية الكبرى بمكانتها المهمة بفضل الثقة في التعاملات التجارية مع المستهلكين؛ بدءاً من حقوق الاسترجاع ومعاينة البضاعة، ووجود مظلة تشريعية تحمي المستهلك ممثلة في وزارة التجارة، وكذلك وصول البضاعة في زمن قياسي، بالإضافة إلى تجربة "التسوق والنزهة العائلية". هذا بالإضافة إلى أن الكثير من المستهلكين لا يزالون يصرون على الاحتفاظ بعاداتهم بعدم الشراء دون رؤية ومعاينة البضائع بأنفسهم للتأكد من جودتها. وفي الوقت الذي يرى 47 % من الذين توقفوا عن الشراء عبر الإنترنت أن المتاجر التقليدية تقدم أسعاراً أفضل من نظيراتها الإلكترونية، تؤكد هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية أن المتاجر التقليدية تفوقت في خدمات ما بعد البيع للمتعاملين حيث أتاحت إعادة المنتج عبر المتجر التقليدي حتى وإن تم شراؤه من الموقع الإلكتروني للشركة. وتأتي هذه الإجراءات والخدمات من المراكز التجارية بمتاجرها التقليدية كخطوة استباقية للاستفادة من التجارة الإلكترونية وتطويعها لتلبية احتياجات وتوقعات المستهلك عبر فتح حسابات مواقع التواصل الاجتماعي واستعراض الجديد فيها، وتقديم خصومات خاصة عبر حسابات مشاهير التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي أضحت فيه مراكز التسوق وجهة مُتكاملة جاذبة لمختلف شرائح وقطاعات المجتمع السعودي. *كاتب اقتصادي ومستشار إعلامي د. طلال الحربي*