الكتابة عملية وضع المجهر على الأشياءِ التي بالكادِ تُرى، لتتضح أمام العامة بحقيقتها المجرّدة، هي أداة ترشيح تُنقّي ما بداخلك من خيباتٍ عالقة لتظهرك بشكلٍ أصفى وأنقى، بالكتابة يتخلص الكاتب من الكلمات المتكدِّسة بداخله، ويتحرّر من قيوده التي وضعتها المواقف! الكاتب الحقيقي يكتب؛ لأنّ هناك تجربة لمْ تعبره إلى اللحظة! تجربة علقت بداخله فأراد أخذ حكمتها ومنْحها للعامة، يكتب كي يعود إلى ذاته كلما فرّ منها بغيرِ قصد، يكتب مشحونًا بأمل السيطرة على سفاسف الأمور التي تنبت مع المواقف المؤذية فتنمو وتكبر، يكتب ليتخلص منها قبل أن تكبر! بالكتابة يواجه الكاتب نفسه، ويخوض معركة يكون فيها هو القاتل والمقتول! بالكتابة يرى الكاتب ما لمْ تعكسه له المرآة، يرى باطنه! الكتابة تُرتِّب الأحداث المتداخلة والتفاصيل غير المرئية، فتصنع صورة متّسقة الأبعاد، صورة سويّة! الكتابة الفعلية ليست بالأمر الهيّن، فهي عملية تكوين شيء يختصر كل الأشياء! وكثيرًا ما تنحرف عن خطتها لتكوِّن شيئًا من لا شيء! غالبًا ما تحلُّ الكتابة محلَّ الطبيب، وتشخّص الحالات الطارئة والنادرة، فتكشف الغطاء عن الأوجاع التي لمْ تبرأ بعد؛ كيْ تداوي وتُعالِج! وقد تحلُّ الكتابة محلَّ المُحاسب، فتحلل الأحداث وتبوِّبها، توضح ما لكَ من أصول، وما عليكَ من التزامات؛ لتجعل حياتك تسري بشكلٍ مثالي، وتُوازِن في نهاية الأمر مركزك الحالي. وقد تأخذ الكتابة دور المهندس فتصمِّم وترسم أدق التفاصيل؛ لتُشيّد بناءً راسخًا لا ينهار عند تعرضه لأدنى عامِل من عوامل السقوط. وقد تأخذ دور المحامي، فتعيدُ لكَ حقّك المسلوب؛ ليعمّ العدل، وتهدأ روحك من سهر الليالي. الكتابة تنوب عن كثير من الحِرف والمهن إن وُظِّفت بالشكل الصحيح، وأُخِذت على محمل الجد. الكتابة بوصلة حياتك ودليلها فهيَ توجّهك؛ لكنّها لا تضمن لكَ الطريق أبدًا.