صوت مجلجل ومزلزل، يتعقبك من الخلف، يحاصرك من جميع الاتجاهات، يحتويك بقوة، ثم يخبو شيئاً فشيئاً، ويصمت، إنه صوت سيارة الإسعاف، وهي تمخر بحراً هائلاً مختنقاً بآلاف السيارات، تحاول أن تسير بصعوبة بالغة، لكنها تتوقف مثل قارب تعطل محركه، وبقي مكشوفاً تتلاطمه أمواج البحر، وسيارة الإسعاف هذه تحمل مريضاً بين الحياة والموت، يتحلق حوله مجموعة من أصحاب المعاطف البيضاء، يسابقون الزمن لإنقاذ حياته، والوصول به إلى أقرب مستشفى، لكنهم يفشلون، يشحذون قائد السيارة بأعينهم، يحاول هو الآخر جاهداً تلبية ندائهم الحسي، والسير وتجاوز هذا الاختناق، وكسر حدته، لكنه لا يستطيع، تتوقف عن السير تماماً وتصبح بحاجة إلى إسعاف، صمت رهيب يسري داخل سيارة الإسعاف، يتبادلون النظرات بينهم، فقط صرخات المريض وأنينه المتواصل يعلوان المكان، يحاول الطاقم عمل المستحيل، لكن لا خيار لهم سوى الاستسلام لهذه اللحظات الفارطة من العمر ومن التاريخ ومن الزمن، والتي قد يلفظ هذا المريض أنفاسه، ويموت، وبالتالي ستترك آثاراً عميقةً ووخْزاً أليماً سيصاحبهم حتى القبر، لأنهم فشلوا في إنقاذ مريض. أحد أفراد الطاقم أجهش ببكاء عميق يقطع شرايين القلب، لكن زميله شده من معصمه، في لحظة عتاب إنسانية، قائلاً لا تبكِ فنحن لم نفشل وحدنا، هناك شركاء معنا بالفشل، هناك الوعي العام للناس، هو مشارك معنا بهذا الفشل، والذي سببه يعود إلى المدرسة التي فشلت فشلاً ذريعاً في تأصيل الوعي ليكون حاضراً في مثل هذه الظروف، وكذلك إدارات المرور، وإدارة الأمانة التي من أولى مسؤولياتها أن يكون هناك مسار مخصص لحالات الإسعاف وحالات الطوارئ، كما هو معمول به في جميع بلدان العالم المتقدمة. كل هذه التساؤلات وسيارة الإسعاف متوقفة لا تستطيع أداء رسالتها الإنسانية بسبب هذه الاختناقات التي أصبحت مزمنة ومربكة للمال والجهد والوقت، ولا تتماشى بأي حال من الأحوال مع التطلعات الضخمة والطموحة، التي تطلقها الرؤية. آن الأوان أن ننزل إلى شوارعنا، ونشاهدها مباشرة بالعين المجردة، لنعرف أين يكمن الخلل؟ هل هو في لوجستية هذه الشوارع، أم في تقنيتها، أم في العاملين عليها؟ لأن انسياب حركة السير أصبح مظهراً من مظاهر التطور والتقدم لأي مدينة من مدن العالم.. ونحن بدورنا نحيِّي رجل المرور الذي يقف بعناد تحت أشعة الشمس الحارقة وفي ليالي الشتاء الباردة، ونرفع له القبعة احتراماً وعرفاناً برسالته الحضارية والإنسانية.