إن تطور الفنون الغربية يرجع إلى تطور النقد لديهم، فنتسابق عليها ونسعى للإشادة والانبهار بها، مقارنة بما نقدمه كعرب من فنون أو ابتكارات، فلا نلبث أن نقتبس أو نسطو أو ننبهر؛ وكل ذلك يؤثر وبلا شك على الشخصية العربية.. كلما ذكرنا كلمة إبداع تبادر إلى أذهاننا مفهوم الفن، ذلك لارتباط الفن بالإبداع؛ إلا أنه يجب علينا أن نتيقن أن كلمة الإبداع تنسحب على كل المجالات في الفن وفي السياسة وفي كل الابتكارات المؤسسية المطورة للحياة، وفي السلوك البشري أيضاً. ولكي يتسنى لنا ذلك فلا بد من ارتباط النقد بالإبداع ارتباطاً وثيقاً، إذ لا إبداع بلا نقد ولا نقد من دون ميدانه الأساسي من فنون وآداب، فكلاهما مؤزر ومؤسس للآخر وليس العكس، فالناقد هو خادم المبدع ومسانده، إذ إنه هو المفسر والمحلل والشارح والموصل لرسالته. إن مفهوم النقد لدينا لا يزال يحمل مفهوم تصيد المثالب والأخطاء، وذلك لتأصل مفهوم النقد لدى قدامى العرب وهو (فرز الغث من الثمين) وذلك لأن الناقد عند العرب هو ذلك الرجل المنوط بفرز العملات وتصنيفها، وهذا مفهوم حقيقة أضر بالمصطلح وأساء إلى فهمه في العلوم الحديثة وفي الذهنية العربية بشكل خاص! ولذلك تأسست تلك العلاقة العدائية بين الناقد والمبدع نتاج ذلك الفهم الخاطئ للمؤسسة النقدية ووظيفتها في تطوير الإبداع ونجاح رسالته! إذا ما تساءلنا عن تدهور الذوق العام في جل المجالات وخاصة الفنون وفيما نشاهده من أعمال إبداعية تفتقر إلى الإبداع والابتكار، فسنجد أن الأساس هو تدهور المؤسسة النقدية، وإهمال شؤونها سواء على المستوى المؤسسي أو على المستوى الفردي، ذلك يرجع إلى تدهور مفهوم الوظيفة في تحقيق ذوق رفيع وسلوك يترجى في الشارع وفي المقتنيات الذهنية التي باتت تأخذ في الانحدار الملحوظ نتاج زخم الإنتاج وتضاؤل النقد، فأصبحت الساحة جلها مرتعاً يبحث فقط عن الربح وعن رواج عملية البيع والشراء، حتى تسرب هذا الرواج إلى المتاجرة بالعقول وبالأذهان فتشيأ الإنسان وأصبح سلعة في معروضات السوق وأصبح هو الأداة الفاعلة لهذا الرواج! إن تطور الفنون الغربية يرجع إلى تطور النقد لديهم، فنتسابق عليها ونسعى للإشادة بها والانبهار بها، مقارنة بما نقدمه كعرب من فنون أو من ابتكارات، فلا نلبث أن نقتبس أو نسطو أو ننبهر وكل ذلك يؤثر وبلا شك على الشخصية العربية التي يجب غرسها في طينتها - بحسب تعبير الفلاسفة المسلمين في هذا الشأن - ذلك لأن تلك الفنون المستوفدة تغرس في الذهنية العربية أموراً قد تتنافى مع تكوينها، وهذا ما ينتج بالفعل، وسنسوق مثالاً على ذلك ما نشاهده في شخصية البطل في السينما الأميركية التي نسابق على كل فيلم جديد فيها؛ فنجد أن شخصية البطل في السينما الأميركية هو ذلك البطل الذي لا يُقهر على الإطلاق (على العكس من حقيقتها)! مما أسس بدوره تأكداً واضحاً على أن الشخصية الأميركية برمتها لا تُقهر! وهذا هو دور الدراما وانعكاساتها في خدمة دولها، فمن يعتقد أن الفنون برمتها لا تخدم الدول التي هي منها أو تسيء إليها فذلك أمر منافٍ للصواب على كل حال، فإذا ما عدنا إلى الماضي القريب وتسيد القيم والسلوك الرفيع والبطولات الكبيرة لدى العرب، فسنعود إلى فنونهم وإلى سيرهم الشعبية وإلى مفهوم البطل في الملاحم العربية التي كونت الشخصية حينها بذلك الجمال؛ إنها نوع من التربية الذهنية للعامة من الناس دونما خطاب مباشر أو منابر منتقاة؛ وإنما تسرب أسماه علماء النفس ب(تسرب الانفعال) الذي يتسرب إلى الوجدان فيسبغه بتلك السبغة المتسربة إليه. وعلى ذلك كله كان يجب النهوض بدور الناقد - الذي لا نسمع عنه إلا في ردهات الجامعات والمنزوي عن الشارع وعن العامة - في تربية الذهنية والنهوض بها لكي يتحول المشاهد إلى ذائقة ترفض الغث من ذلك الهراء الذي يصدع رؤوسنا على الساحات الأدبية والفنية! فالناقد هو ذلك القاضي المخلص والمختص بعلوم ومناهج لا يدركها ذلك الناقد الانطباعي الذي يملأ الفراغ النقدي ويهدر جهود القائمين على كل العمليات الإبداعية وبالتالي يترك وراءه ذلك العداء بينهما ويحطم الذائقة بشكل كبير، فالنقد كما يعرفه رونالد بارت فيقول: "إن المبدأ الأساسي هو أن مفهوم النقد يجب أن يرتد إلى المفهوم الشكلي وفق مفهومه المنطقي لا مفهومه الجمالي". فلا يهمه أن يفهم الناقد الأثر الأدبي فهما تجربيياً على مستوى علاقات فنية بل هو يثبتها عن طريق النماذج التي تسمح له بفهم الأتر الأدبي فهما "بينيا" وهذا هو ما عبر عنه في كتابه "دراسات نقدية" عن طريق ذلك الفهم يمكن للناقد أن يؤلف نسقاً أو "نظاماً" من العناصر الشكليه للأثر ونحن لا نريد في هذا الموضوع الدخول في نقاش المنهج البنائي الشكلي على نحو ما يفهمه بارت ولكن حسبنا أن نقول: إن النقد في نظره نشاط شكلي منطقي يعتمد على أسس خاصة تعمل في البحث عن معنى أو دلالة الرمز الكامن وراء بناء الأثر. فيقول: "إن النقد أولاً وقبل كل شيء هو الدراسة العلمية للعمل وهذه الدراسة تنهض على أساس الفهم والتفسير المماثل - ويقصد بالتفسير المماثل - أنه استخلاص الأثر ومميزاته المنبثقة من مجموعة علاقات منطقية وربطها بالملامح العامة للبنيات الكليه للمجتمع"، ولهذا يصبح الناقد ذلك الجسر الثقافي، أو قل عامل البريد - إن جاز لنا التعبير - لتصل الرسائل والمفاهيم لتربية الذوق العام في كل البنيات الاجتماعية، والرقي بالذهنية وبالسلوك في ظل اختفاء دور مفهوم ووظيفة الضبط الاجتماعي التي كانت لدى أسلافنا.