كثيراً ما تحولت علاقات الناس على اختلاف مستوياتهم وتباين ثقافاتهم وتعدد مجالاتهم إلى عالم افتراضي رقمي يخترق الحدود ويختصر المسافات ويتجاوز الآفاق. بل إن الأسرة الواحدة أصبحت مجالات التعامل بين أفرادها - في غالب أحواله - رقمياً، فالأب يخاطب أبناءه ويسأل عن أحوالهم ويطلع على أخبارهم وربما يرسل لهم تكليفاتهم إلكترونياً! والأم تسعى إلى العناية بشؤون الأسرة بتفعيل التقنية واستخدام العديد من الأجهزة والبرامج لتسهيل الرعاية الإيجابية لأفراد أسرتها. والأبناء بعضهم مع بعض يتحاورون ويتبادلون كثيراً من آرائهم عبر وسائل الاتصال، ويرتبون جداولهم اليومية ومناسباتهم الاجتماعية وتسوقهم وبرامج حياتهم عبر الوسائل التقنية. وعلى الرغم مما أحدثته هذه الأجهزة من ثورة معرفية وغزارة معلوماتية وتوفير كثير من الوقت والجهد إلا أنها في كثير من حالاتها تفتقد إلى نكهة التواصل الحقيقية بين الوالدين مع بعضهما أو بينهما وأبنائهما أو بين الأبناء بعضهم مع بعض. تلك اللغة الجسدية التي لها أبلغ الأثر على العلاقات وبنائها وتطويرها ورعايتها واستدامتها وفهمها فهماً سليماً وبنائها بناءً صحياً يسمو بها إلى كل خير. إنها اللغة الأكبر أثراً والأكثر نماءً والأوفر حظاً والأبلغ تأثيراً على المستويات كافة. وإذا كانت هذه اللغة هي الأولى في لغات العالم أجمع، ولغة التواصل الحقيقي مهما اختلفت اللغات وتباينت العادات فإنها في عالم الأسرة يجب أن تبقى سائدة ويرتفع مستوى التعامل بها لما لها من أثر فاعل وتأثير كبير على الجميع. إن نظرة الوالدين إلى أبنائهما وتربيتهما على أكتافهما وابتسامة الأبناء لبعضهم وروح الألفة والسعادة التي تشع في جلسة الأسرة لا يمكن أن تتحقق رقمياً! لذلك يجب أن نستثمر تلك الأجهزة إيجابياً، وأن لا نتنازل أبداً عن الاجتماع الحقيقي بل ينبغي أن ترقى تعاملاتنا أكثر بحيث يعتمد الجميع عدم استخدام الأجهزة في جلسة الأسرة إلا للضرورة القصوى فإذا ابتدأ الكبار بهذه القاعدة وأحسنوا تطبيقها، اقتدى بهم من دونهم، واستشعر الجميع مسؤوليته في العناية بجلسة الأسرة وإعطائها القدر الحقيقي الذي يضمن بإذن الله علاقات إيجابية وأسراً متوادّة ومسؤوليات ناجحة ومجتمعات متماسكة. إن مجرد المنع الصارم لاستخدام الأجهزة لا يُعدّ نجاحاً ولكن النجاح الحقيقي أن نُقنن استعمالها بالأسلوب الصحيح. المنع فشل، والتسيب فشل، والنجاح الحقيقي في بناء الضوابط الصحيحة الممكنة والاتفاق عليها والقدرة على تطبيقها تلقائياً وتفعيل الضمير الحي ومراقبة الله تعالى واحترام الإنسان قراراته ومعايير حياته، واحترام أسرته وأفراد مجتمعه وبيئة عمله. ويؤكد النجاح في الضبط أن نلحظ استمرار العلاقات الإيجابية بين أفراد الأسرة وتفوّق الأبناء في تحصيلهم العلمي وزيادة رصيدهم المعرفي وتميّز بنائهم الفكري وتطور توجههم الابتكاري ونمو مستواهم المهاري وارتفاع تقييم الأسرة على الأصعدة كافة.